السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤

الفكرة التَّسَلُّطِيَّة ليست هي الوسواس

الأحد ٢٦ جمادى ثانى ١٤٤٥ هـ - ٠٩:٣٨ ص - ٠٧ يناير ٢٠٢٤
2699

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛  

فإن السنة الشريفة وردت بما يدفع وساوس الشيطان إذا اعترى المسلمَ شيءٌ منها، فمن ابْتُلِيَ بوسوسة الشيطان بقوله مثلًا: "مَنْ خَلَقَ اللهَ؟"؛ فيجب عليه أن ينتهيَ عن الانسياق مع وسوسَتِه؛ لأنه سؤال باطل متناقض؛ لأن المعدوم هو الذي يحتاج إلى الخلق، أما (خالق كل شيء) فيستحيل أن يكون مخلوقًا، وإلا لزم (التسلسل) وهو محال؛ فعلى العبد أن ينصرف عن مجادلة الشيطان إلى إجابته بما يلي:

1- آمنْتُ باللهِ وَرُسُلِه.

2- هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ، والظَّاهِرُ والباطِنُ، وهُوَ بِكُلِّ شيءٍ عليم.

3- اللهُ أحدٌ، اللهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ، ولَمْ يُولَدْ، ولَمْ يَكُن له كُفُوًا أحدٌ.

ثُمَّ يَتْفُلُ عن يسارِه ثلاثًا، ويقول:

4- أعوذ باللهِ السميعِ العليمِ من الشيطانِ الرجيمِ، وَمِن فِتْنَتِهِ.

والمراد بالوسوسة هنا: الوسوسة العابرة التي تندفع بالتعوُّذ بالله وكلماته، مِن نزغِ الشيطان؛ قال -تعالى-: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ‌فَاسْتَعِذْ ‌بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأعراف: 200).

ولهذه الوسوسـة مصدران:

الأول: شيطان الجن أو الإنس الذي يُغريه بالحرام ويزيِّنه له، أو يوسوس له بأفكار بغيضة حول المُقَدَّسات: كالذات الإلهية، أو يشككه في عقيدته، أو يشوِّش عليه ويشككه في طهارته وصلاته، وأحيانًا في أمورٍ دُنيوية، قال الله -تعالى-: (قُلْ أَعُوذُ ‌بِرَبِّ ‌النَّاسِ . مَلِكِ النَّاسِ . إِلَهِ النَّاسِ . مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ . مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(سورة الناس).

فالشيطان يوسوس للإنسان، فإذا ذكر الله خَنَسَ، أي: سَكَتَ وكَفَّ عن الوسوسة.

وقال الله -سبحانه-: (‌فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) (الأعراف: 20)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (‌الْحَمْدُ ‌لِلَّهِ ‌الَّذِي ‌رَدَّ ‌كَيَدَهُ ‌إِلَى ‌الْوَسْوَسَةِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

الثاني: النَّفْس الأمَّارة بالسوء التي تُحَرِّضُه على اتباع الهوى والانسياق وراء الشهوات، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ ‌مَا ‌تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (ق: 16). وهذه الوساوس تكون عابرة، ولا يكاد ينجو منها إنسان، وسرعان ما يتمكن من إيقافها بالتعوُّذ والذِّكْر، والتحول عنها إلى فكرةٍ أخرى.

ولأنَّ الإسلامَ دينُ الوَسَطيَّة والاعتدالِ؛ فقد حارَبَ كُلَّ مظاهِرِ الغُلُوِّ والتَّشَدُّد والتنطُّع، وحَذَّرَ منها؛ ولذلك رأيْنا علماءَ الإسلامِ في كُلِّ عصرٍ قد صَنَّفوا في تحريم ذلك والتنفير منه، والرد على العقائد الغالية المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة، وكذلك الرد على المتنطعين في العِلْم والعبادة، وسلوك طريق الرهبنة، وتحريم الطيبات، وكان مِمَّن تصدَّوْا لهم بالتَّصنيف: (طائفةُ الموسوسين)؛ لأنهم رأوا تنطعهم وتشددهم في العقائد أو العبادات، أو غيرها من السلوكيات.

ونلاحظ بوضوح أنهم كانوا ينكرون على (الموسوسين)، ويزجرونهم بشدة؛ باعتبارهم مختارين مسؤولين عن أعمالهم، وَوَصَفَهم قليلٌ منهم بالجنون.

ولُبُّ المُشْكِلة: أنَّ العِلْمَ البشري بكينونة (اضطراب الوسواس القهري) لم يكن في عصرهم قد تطوَّر وتحدَّدَ بالصُّورة التي نلمسها الآن؛ فإنَّ (الطِّبَّ النفسي) اليومَ قد مكننا بوضوحٍ من أن نُمَيِّزَ بين الوساوس العابرة التي أشرنا إليه آنفًا، وبين (اضطراب الاستحواذ القهري، أو الفكرة التسلُّطيَّة، أو الوسواس القهري) (Obsessive Compulsive Disorder).

ونحتاج هنا إلى أن نُميِّزَ بين نوعين من التفكير:

الأول: أفكاري التي تصدر عن ذاتي، وتعبِّرُ عني وعن مشاعري، وتتوافق مع إرادتي، وأستطيعُ أن أتحكَّمَ فيها، فأقبل ما أريد، وأطرد منها ما أشاء، وأتحول عنها إلى غيرها.

الثاني: الفكرة التسلُّطيَّة القهرية التي تصدر عن عقلي، وليس عن مؤثِّر خارجي، فتحشر نفسها في وعيي، وتقتحمه رغمًا عني، وأشعرُ أنها غريبةٌ عني، تُناقِضُ طبيعتي، وتخالِف معتقَدي وقِيَمِي، وتصدِمُ مشاعري، وتُعَذِّبُ ضميري؛ ولذلك أحاول التخلُّصَ منها فأعجز، وكلما قاومتُها زادت حِدَّتُها، واشتدَّ إلحاحُها على وعيي، ويقشعر بدني من فرط سخافتها، وأنفِر، بل أتقزَّز منها، وأرفضها، فيزداد توتُّري وقلقي، أخجلُ منها، ولا أقوى على البوح بها لأحدٍ، وأغرق في دَوَامةِ تَكرارِها وإلحاحِها في دائرة مفرغة لا تنتهي.

ومهما حاولتُ التعوذ بالله من الشيطان الرجيم فإنها لا تختفي رغم ذلك، وهذا هو (اضطراب الوسواس القهري) (OCD)، الذي يتميَّز بأنَّ الفكرة فيه تتنافر مع ذاتي (Egodystonic)، وليست متناغمةً معها (Egosyntonic).

إنَّ مريض (الوسواس القهري) يتألَّمُ حين يلومه الذين يستفتيهم في معاناته، ويضيقون به ذرعًا، ويتوهمون أن زجره وتوبيخه كافٍ في شفائه، وهم بذلك يَزيدون معاناتَه؛ لأنهم يتهمونه بأنه مُتَنَطِّع، ولا يدركون مكوِّن (القهر) في هذا الاضطراب.

ومما يؤكد الطبيعة المَرَضيَّة لهذا الاضطراب: حدوثُه خارجَ نطاق العبادات، وخارج نطاق المتدينين، وانتقاله عن طريق الوراثة أحيانًا، وتعافي كثير من المرضى أو تحسنهم عند علاجهم بالأدوية، والعلاج المعرفي والسلوكي.

لقد أدَّت ترجمة كلمة (Obsession) إلى (وسواس) إلى اختلاط وسوسة الشيطان (الجِنِّي أو الإنسي)، ووسوسة النفس الأمارة بالسوء، باضطراب (الوسواس القهري)، وكان الأصح ترجمتها إلى (الفكرة التسَلُّطِيَّة) أو (الاستحواذ القهري)؛ لأنَّ الوسوسة في اللغة لا يدخل فيها عنصر القهر والتسلط والاستحواذ؛ يُقال: أخذه قهرًا أي: من غير رضاه.

كما أنَّ هذا المعنى اللغوي يشير إلى مصدرٍ خارجِيٍّ للقهر، أمَّا في هذا الاضطراب فإنه ينبع من مصدرٍ داخِلِي ذاتي، ويفعله الإنسان بدون رضاه، وحين يحوله من فكرة إلى سلوك يأخذ طابع (الطقوس)؛ فلا يستطيع إيقافه والتحكم فيه. وقد يخفف من الخطأ في هذه الترجمة أن نضيف وصف (القهر)، فنقول: (الوسواس القهري).

إنَّ (اضطراب الوسواس القهري) -كما يُعَرِّفُه (دستور الأمراض النفسية) (DSM-5)-: هو علة مَرَضيَّة، عبارة عن أفكار أو أفعال أو خواطر، أو نزعات متكررة ذات طابَعٍ بغيضٍ، يرفضها الإنسانُ عادةً، ويسعى في مقاومتها، ويدرك أنها خطأ ولا معنى لها، لكن هناك ما يدفعه إليها دفعًا، ويفشل غالبًا في مقاومتها.

وقد أكَّدَت البحوث العلمية الموثقة: أنَّ من أسباب هذا الاضطراب خللًا في (كيمياء المخ)، وثَبَت أن المرضى يتحسنون بشكل ملحوظٍ إذا تعاطَوْا (مضادات الاكتئاب)، وهذا مصداق قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَا ‌أَنْزَلَ ‌اللهُ ‌دَاءً ‌إِلَّا ‌أَنْزَلَ ‌لَهُ ‌شِفَاءً) (رواه البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-)، فتوفيق اللهِ البشرَ إلى اكتشاف هذه الأدوية نعمة من الله على البشرية كلِّها تستوجب حمدَه -تعالى- عليها؛ خلافًا لجهلة المتعالمين الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويُنَفِّرون الناسَ مِن هذه النعمة بزعمهم أنها تضرُّ المخ، وتسبب الإدمان... إلى آخرِ هذه التُّرَّهَات.

فعلى من ابتُلِيَ بهذا المَرض العُضال: أن يستعينَ بالله وحدَه، ويلزم الرقية الشرعية التي هي في الحقيقة وقاية وعلاج، ويبادر إلى زيارة الطبيب النفسي، ويلتزم بطرائق العلاج النفسي، ويحافظ على العلاج الدوائي الذي يصفه له الطبيب، ويصبر عليه؛ لأن تأثيره العلاجي يبدأ في الظهور بعد حوالي ثلاثة أسابيع من تعاطيه، في حين تظهر الأعراض الجانبية مبكرًا؛ مما يدفع المريض إلى رفض الدواء، فتستمر معاناته ومعاناة المحيطين به.

إن العلاج الدوائي يهدف هنا إلى السيطرة الفعَّالة على الأعراض بأقل جرعة علاجية مع أقل أعراض جانبية، ويمكن أن يستغرق تحسُّن الأعراض من أسابيع إلى شهور مِن بدء تناول الدواء، وتتفاوت فعالية العلاج باختلاف الأشخاص وتفاوت شدة الأعراض، لكن التحسُّن يبدأ -في المتوسط- بعد أسبوعين من تناول الدواء، ويستمر في التزايد حتى يصل أوج فعَّاليته في الشهر الثالث غالبًا، وهنا عليك أن تستمر في تعاطيه لمدة شهرين إضافيين -على الأقل-، ثم تُقوَّم حالتك، وربما يبدأ الطبيب في الخفض التدريجي لجرعة الدواء، وعمومًا يجب أن يتم تعاطي الجرعة بإشراف الطبيب، وبخاصة في الأسابيع الأولى أو عند تعديل الجرعة.

رزقنا الله وإياكم العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

ربما يهمك أيضاً