الاثنين، ٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٨ مارس ٢٠٢٤

من مفاخر الأزهر الشريف إمامه العلامة محمد الخضر حسين

الأحد ١٣ صفر ١٤٣٨ هـ - ١٢:٥٠ م - ١٣ نوفمبر ٢٠١٦
3549

شيخ الأزهر محمد الخضر حسين 13 رجب 1377 هـ ( 1958 م ) :
الشيخ الخضر علم من أعلام الدعوة والإصلاح، وقد اشتغل بالتعليم والجهاد ، وتكوين الجمعيات المدنيّة، وإصدار المجلات العلمية والدعوية ورئاسة تحريرها، وتحمل مشقة الكتابة نثراً وشعراً للعرض أو الرد؛ وللنقد أو النقض، وله عناية فائقة باللغة العربية وعلومها مما أهله لعضوية المجامع العلمية واللغوية في القاهرة ودمشق، وهو صاحب أسفار ورحلات مدونة، وقد ألقى عدداً من المحاضرات والخطب وعمل قاضياً فترة وجيزة
أجمع معاصروه وتلامذته ودارسوه من بعده على تقواه وصلاحه، وغزارة علمه ومعارفه، ومكارم أخلاقه، وطهارة سريرته، وأنه أوقف حياته بليلها ونهارها لخدمة الإسلام، ويدلنا على هذا الأمر: إنتاجه الغزير، وعطاؤه الوفير، وسيرته العطرة، وهذه التآليف المتعددة في اختصاصها وفنونها، وصدقها وأمانتها.

نشأته :
اسمه : محمد الخضر بن الحسين بن علي ابن عمر الشريف التونسي
ينتسب إلى أسرة عريقة في العلم والشرف، وقد رحل والده من الجزائر إلى (نفطة) من بلاد الجريد بتونس بصحبة صهره (مصطفى بن عزوز) حـيــنـمـا دخل الاستعمار الفرنسي الجزائر، ومما يدل على عراقة أسرته في العلم أن منها جده (مصطفى بن عزوز) وأبو جده لأمه (محمد بن عزوز)، من أفاضل علماء تونس، وخاله (محمد المكي) من كـبـار الـعـلـماء وكان موضع الإجلال في الخلافة العثمانية .
ولد الشيخ محمد الخضر حسين في بلاد نفطة في تونس في 26 من رجب سنة 1293هـ، وهو من أسرة كريمة أصلها من الجزائر
حفظ القرآن الكريم صغيراً، وانتقل مع عائلته عام 1305 هـ وهو في الثانية عشرة من عمره إلى تونس العاصمة، وتلقى العلم على علماء الزيتونة، ومن أبرزهم: سالم بو حاجب، عمر بن عزوز، محمد النجار، مصطفى رضوان، إسماعيل الصفا، وحصل على شهادة التطويع عام 1321 هـ .
رحل سنة 1903 م إلى الجزائر، ثم عاد إلى تونس فأنشأ سنة 1904 م أول مجلة عربية ظهرت فيها هي «السعادة العظمى»، فحرر أغلب مقالاتها، وأصدر منها (21) عدداً، ثم توقفت سنة 1905 م لأسباب مالية، وتولى القضاء في «بنزرت» أشهراً، ثم عاد للتدريس في الزيتونة سنة 1906م ، وعُيِّن سنة 1908م مدرساً في المدرسة الصادقية وخطيباً في جامع الخلدونية.

رحل سنة 1912 إلى حي الميدان في دمشق حيث استقر إخوته: (زين العابدين، ومحمد الجنيدي، ومحمد العروسي، ومحمد المكي)، وزار في أثناء رحلته مالطة، والإسكندرية، والقاهرة، وبورسعيد، ويافا، وحيفا. وانتقل من دمشق إلى بيروت، فاستنبول لزيارة خاله محمد المكي بن عزوز، ثم عاد إلى تونس وقد فُصِل من التدريس في المدرسة الصادقية، فارتحل إلى الشام ماراً بمصر، فصار مدرساً بالمدرسة السلطانية وبالجامع الأموي، وبدأ كتابة المقالات
ولما تولى جمال باشا حكم سورية أدخله السجن سنة 1916م إلى سنة 1917م، وعاد بعد خروجه منه للتدريس، ثم استدعي إلى مركز الخلافة للعمل منشئاً بوزارة الحربية، وأوفد سنة 1918م إلى برلين مرتين بصحبة عدد من العلماء، الأولى تسعة أشهر تعلم في أثنائها الألمانية، واتصل مع النازحين السوريين من ظلم الفرنسيين، وأخرى أقام فيها سبعة أشهر، ثم عاد إلى دمشق مدرساً بالسلطانية والأموي وجامع المصلى
وعيّن سنة 1919م عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق مع محمد بن أبي شنب وحسن حسني عبد الوهاب وماسينيون وبروكلمن
إلى مصر
ولما وقع الاحتلال الفرنسي لسورية سنة 1920م ( 1339 هـ ) رحل إلى مصر نهائياً
جاء إلى القاهرة حين كانت مستقر العلماء، وقادة التحرير، وزعماء الإصلاح في العالم العربي والإسلامي، وشهد النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري نزوح عدد كبير من هؤلاء إلى القاهرة  التي فتحت لهم ذراعيها، وأحسنت استقبالهم، وأكرمت وفادتهم، فقدم من الدولة العثمانية الشيخ ا"مصطفي صبري" ، ومن الشام "طاهر الجزائري" و"محمد كرد علي" و"شكيب أرسلان"، ومن بلاد المغرب العربي "علال الفاسي" و"محمد الخضر حسين" و"البشير الإبراهيمي" وغيرهم.
واستقر بعضهم في القاهرة واتخذها وطنًا له، وعمل في مؤسساتها، وتبوأ المناصب العليا في الدولة، مثل الشيخ "محمد الخضر الحسين"، الذي قدِم من تونس إلى القاهرة، و نال الجنسية المصرية وأقام بها وعمل في هيئاتها ومؤسساتها العلمية حتى اختير شيخًا للجامع الأزهر.
وقد وصل إلى القاهرة عام 1339 م ، فوجد بها صفوة من أصدقائه الذين تعرف عليهم بدمشق ومنهم: (محب الدين الخطيب) ونظراً لمكانته العلمية والأدبية اشتغل بالكتابة والتحرير ، وكان العلامة (أحمد تيمور) من أول من قدر الشيخ في علمه وأدبه . فساعده وتوطدت العلاقة بينهما. ثم كسبته دار الكتب المصرية فعمل بالقسم الأدبي بها . مع نشاطه في الدروس والمحاضرات وقدم للأزهر ممتحناً أمام لجنة من العلماء اكتشفت آفاق علمه ، فأعجبت به أيما إعجاب فنال على أثر ذلك (العالمية) فأصبح من كبار الأساتذة في كلية (أصول الدين والتخصص) لاثنتي عشرة سنة
وفي عام 1344 أصدر كتاب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) رد فيه على الشيخ (علي عبد الرزاق) فيما افتراه على الإسلام من دعوته المشبوهة للفصل بين الدين والدولة
وفي عام 1345 أصدر كتابه (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) رداً على طه حسين فيما زعمه في قضية انتحال الشعر الجاهلي وما ضمنه من افتراءات ضد القرآن الكريم .
وفي عام 1346 هـ شارك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وفي السنة نفـسـهـا أسـس جمعية (الهداية الإسلامية) والتي كانت تهدف للقيام بما يرشد إليه الدين الحنيف من علم نافع وأدب رفيع مع السعي للتعارف بين المسلمين ونشر حقائق الإسـلام ومـقـاومـة مـفـتـريات خصومه، وصدر عنها مجلة باسمها هي لسان حالها،
وفي عـام 1349 هـ صـدرت مـجـلة (نور الإسلام - الأزهر حالياً) وتولى رئاسة تحريرها فترة طويلة .

وفي عام 1351 منح الجنـسـية المصرية ثـم صـار عـضـواً بالمجمع اللغوي . ثم تولى رئاسة تحرير مجلة (لواء الإسلام) مدة .

وفي عام 1370 تـقـدم بطـلـب عضوية جمعية كبار العلماء فنالها ببحثه (القياس في اللغة)

في مشيخة الأزهر بعد قيام ثورة يوليو 1952 م كان منصب شيخ الأزهر شاغرًا ، وفي يوم 21 من ذي الحجة عام 1371 هـ وقع الاختيار على الشيخ "الخضر" إمامًا أكبر، وشيخًا للإسلام، ووجهًا مشرقًا لهذه الجامعة العريقة، ووُلي الأستاذ الشيخ المنصب الكبير، وفي ذهنه برنامج إصلاحي كبير للنهضة الإسلامية التي يتطلع إليها العالم الإسلامي، لكنَّ رجال الحكم لم يتركوا الشيخ يعمل في هدوء، ووضعوا العراقيل في طريقه، وشعر الشيخ بضغوط تحُول بينه وبين ما يريد أو تَطلب منه تنفيذ ما لا يرضيه، فتقدم باستقالته في (2من جمادى الأولى سنة 1373هـ= 7من يناير1954م) قائلاً كلمته الشهيرة "يكفيني كوب لبن وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء".
ويذكر له أنه حينما تولَّى مشيخة الأزهر لم يغير شيئًا من عاداته، ولم يكن له في شهوات المنصب من حظ، وكان دائمًا يحتفظ باستقالته في جيبه، ويقول: "إن الأزهر أمانة في عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأتَ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص "
استقال الشيخ احتجاجاً علي إلغاء القضاء الشرعي ودمجه في القضاء المدني .
مؤلفاته :
الشيخ الخضر كان له إنتاج غزير، وعطاء وفير و تآليف متعددة في اختصاصها وفنونها،و أثرها و نفعها
و قد صدر عن دار النوادر ( موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر وعالم بلاد المغرب) بإشراف و تحقيق ابن أخي الشيخ الخضر المحامي علي الرضا الحسيني في 15 مجلداً عام 2011 م ،وعدد صفحاتها(7698) صفحة
و قد ترك الشيخ مؤلفات كثيرة نذكر بعضا من أسمائها :
1- «رسائل الإصلاح» في ثلاثة أجزاء
2- «بلاغة القرآن»
3- «تونس وجامع الزيتونة»،
4- «نقض كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين»
5- «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق»
ونشر بحوثاً ومحاضرات في كتب منها:
1 - «الدعوة إلى الإصلاح»
2 - «الخيال في الشعر العربي»
3 - «القياس في اللغة العربية»
4 - «محمد رسول الله خاتم النبيين»
5- «الحرية في الإسلام»
6 - «حياة اللغة العربية»
7 -- «العظمة»
8 - «الخطابة عند العرب»
9 - «علماء الإسلام في الأندلس»،
10– ديوان شعر بعنوان «خواطر الحياة».
11- أديان العرب قبل الإسلام
12- تونس" 67 عاما تحت الاحتلال الفرنساوي 1881- 1948 )
13- حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية
14 - دراسات في العربية وتاريخها
15 - الرحلات .
16 - مناهج الشرف
وفاته :
بقي الشيخ إلى آخر حياته يشارك في جلسات مجمع اللغة العربية ، ويحرر في مجلة «لواء الإسلام» زاويته «أسرار التنزيل» إلى أن وافاه الأجل في مساء الأحد 13 رجب 1377 هـ ، في القاهرة عن أربعة وثمانين عاماً ، ودفن حسب وصيته بمقبرة آل تيمور حذو صديقه أحمد تيمور باشا، ولم يعقب ولداً. رحمه الله تعالى وقدس روحه ونور ضريحه.

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

وهاك ترجمة ثانية له رحمه الله تعالى للأستاذ صلاح حسن رشيد:

حفـل العصر الحديث بنماذج مشرفة للعلماء الذين ضربوا المثل الأعلى في الفضل والعلم والجهاد والدفاع عن الإسلام ومبادئه، وتصدوا لكل من يحاول المساس بهذا الدين العظيم؛ من هؤلاء العلماء الأعلام الشيخ: محمد الخضر حسين (1875-1958م) التونسي المولد، الجزائري الأصل، المصري الجنسية والإقامة والوفاة.
عاش في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حينما كان العالم الإسلامي يرزح تحت نِير الاحتلال، وأهوال الفقر والجهل والمرض، فطمح إلى تخليصه من رِبقة التبعية والاستعمار، والدخول في فلك الاستقلال والتقدم والمدنية، والالتحاق بركب العالم الأول.
ولد الشيخ في بلدة «نفطة» التونسية، وقد حفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ العلوم اللغوية والشرعية على الشيخ عبدالحفيظ اللمُّوشي.

وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره (أي في عام 1888م) انتقل مع أسرته إلى تونس العاصمة، وبعد عامين التحق بجامع الزيتونة، حيث أخذ العلم على يد خاله الشيخ المكي بن عزوز، والشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ سالم بوحاجب، وغيرهم من أساتذة الزيتونة.
وفي سنة 1903م نال شهادة العالمية، وكان متشبِّعًا بالروح الإسلامية الوطنية، فكان أول موقف له تجاه سلطات الاستعمار الفرنسي هو رفضه تولِّي بعض المناصب التي عرضتها عليه الحكومة الاستعمارية في تونس.

وفي الفترة الزمنية نفسها (1903-1904م) زار الجزائر موطن آبائه وأجداده، وكان قد أصدر في تونس أول مجلة أدبية وعلمية، وهي مجلة «السعادة العظمى».
وفي سنة 1905م تولَّى قضاء مدينة «بنزرت» وضواحيها، إلى جانب ممارسته للخطابة والتدريس بجامع بنزرت الكبير، وبعد عامين عاد إلى تونس العاصمة، وعُيِّن مدرِّسًا بالمدرسة الصادقية، وبعدها بعام تطوَّع للتدريس بالزيتونة ثم عُين مدرسًا بها.

وفي سنة 1907م اشترك في تأسيس الجمعية الزيتونية. وفي سنة 1911م قاد حملة لمناصرة الشعب الليبي في حربه ضد إيطاليا، فاتهمته السلطات الفرنسية ببث روح العداء للغرب، وضيَّقت عليه؛ فهاجر إلى تركيا عن طريق مصر وسوريا.
ثم عاد مرة أخرى إلى تونس ليهاجر منها ثانية إلى الشام، ثم إلى تركيا من جديد، حيث عمل محررًا عربيًّا بوزارة الحربية العثمانية، وشارك في مفاوضات سياسية خلال الحرب العالمية الأولى، ثم عاد إلى دمشق فاعتقله الأتراك عام 1916م عدة أشهر، ثم عاد إلى تركيا، وبعدها رحل إلى ألمانيا، وعاد مرة أخرى إلى تركيا ثم استقر في دمشق، فلمّا احتلها الفرنسيون عاد إلى تونس، ولكنه لم يلبث أن رحل إلى القاهرة عام 1921م واستوطن هناك، حيث أصبح عضوًا في هيئة كبار العلماء و«مجمع اللغة العربية».
وفي سنة 1924م، أسَّس جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية، التي ضمَّت المجاهدين من تونس والجزائر والمغرب الأقصى.
وفي سنة 1927م ترأس الاجتماع التحضيري لتأسيس «جمعية الشبان المسلمين» بحضور أعلام الفكر وكبار الزعماء والعلماء في العالم الإسلامي، الذين اعترفوا له بالمكانة العلمية الكبيرة، فقدَّموه لرئاستهم.

الخضر حسين شيخًا للأزهر:
----------------

لمْ يكتفِ الخضر حسين بما حصّل من علم ومعرفة، بل واظب على التحصيل والتعلم؛ فبعدما نال شهادة العالِمية من الأزهر؛ أبدى من الرسوخ والتمكن ما أدهش علماء الأزهر الكبار الممتحنين؛ حتى إن الشيخ عبدالمجيد اللبان - رئيس اللجنة - قال عنه بصراحة: هذا، بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج؟!

نال الشيخ عضوية جماعة كبار العلماء برسالته القيمة «القياس في اللغة العربية» سنة (1370هـ/1950م) ثم لم يلبث أن وقع عليه الاختيار شيخًا للجامع الأزهر في (26 ذي الحجة 1371هـ/ 16 سبتمبر 1952م) وكان الاختيار مفاجئًا له، فلم يكن يتوقعه، بعدما كبر في السن وضعفت صحته، لكن مشيئة الله أبت إلاَّ أن تكرم أحد المناضلين في ميادين الإصلاح، حيث اعتلى أكبر منصب ديني في العالم الإسلامي.

وكانت في ذهن الشيخ حين ولي المنصب الكبير وسائل لبعث النهضة في مؤسسة الأزهر، وبرامج للإصلاح، لكنه لم يتمكن من ذلك، ثم لم يلبث أن قدم استقالته احتجاجًا على اندماج القضاء الشرعي في القضاء الأهلي، وكان من رأيه أن العكس هو الصحيح، فيجب اندماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ لأن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون المصدر الأساس للتشريع، وكانت استقالته في (2 جمادى الأولى 1372هـ/7 يناير 1954م). وقال كلمته المشهورة: «إن الأزهر أمانة في عنقي أسلِّمها حين أسلِّمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص... يكفيني كوب لبن وكسرة خبز وعلى الدنيا بعدهما العفاء».

معاركه الفكرية:
-----------

خاض الشيخ كثيرًا من المعارك الفكرية، وخرج منها منتصرًا، من أشهرها معركة كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، ومعركة كتاب: «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبدالرازق.
أمَّا الكتاب الأول: فقد ظهر سنة (1345هـ/1927م) وأحدث ضجة هائلة، حيث جاهر مؤلفه الدكتور طه حسين بالشك في كل قديم دُوِّن في صحف الأدب، وزعم أن كل ما يُعد شعرًا جاهليًّا إنما هو مختلق ومنحول، ولمْ يكتفِ بهذه الفرية فجاهر بالهجوم على المقدسات الدينية حيث قال: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي...».
وقد انبرتْ أقلام غيورة لتفنيد ما جاء في هذا الكتاب، من أمثال: الرافعي، والغمراوي، ومحمد فريد وجدي. ومن جانبه قام الخضر حسين بتأليف كتاب: «نقض كتاب في الشعر الجاهلي»، فنَّد ما تضمنه، وأقام الأدلة على أصالة الشعر الجاهلي، وكشف عن مجافاة طه حسين للحق، واعتماده على ما كتبه المستشرق الإنجليزي مرجليوث دون أن يذكر ذلك.
أما الكتاب الآخر فهو «الإسلام وأصول الحكم» الذي ظهر في سنة (1344هـ/1926م) وأثار ضجة كبيرة، وانبرت الأقلام بين هجوم عليه ودفاع عنه، وقد صدم الكتاب الرأي العام، حين زعم أن الإسلام ليس دين حكم[1]، وكانت الصدمة الثانية أن يكون مؤلف هذا الكتاب من علماء الأزهر.
فنهض الشيخ لتفنيد دعاوى الكتاب وأصدر كتابه: «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم» سنة (1344هـ/1926م) تتبع فيه أبواب الكتاب، فكان يبدأ بتلخيص الباب، ثم يورد الفقرة التي تعبِّر عن الفكرة موضوع النقد فيفندها، ونقد استخدام المؤلف للمصادر، وكشف أنه يقتطع الجُمَل من سياقها، فتؤدي المعنى الذي يقصده هو لا المعنى الذي يريده المؤلف.
وقد كشف الشيخ في هذا الكتاب عن علم غزير، وإحاطة متمكنة بأصول الفقه وقواعد الحِجَاج، وبصيرة نافذة بالتشريع الإسلامي، ومعرفة واسعة بالتاريخ ورجاله وحوادثه.

في ميادين الإصلاح:
-------------

اتجه الشيخ إلى تأسيس الجمعيات الإسلامية، فاشترك مع جماعة من الغيورين على الإسلام سنة (1346هـ/1928م) في إنشاء جمعية الشبان المسلمين، ووضع لائحتها الأولى مع صديقه محب الدين الخطيب، وقامت الجمعية بنشر مبادئ الإسلام والدفاع عن قيمه، ومحاربة الإلحاد العلمي، ولا تزال هذه الجمعية بفروعها المختلفة تؤدي بعضًا من رسالتها القديمة.
وأنشأ أيضًا «جمعية الهداية الإسلامية» وكان نشاطها علميًّا أكثر منه اجتماعيًّا، وضمَّت عددًا من شيوخ الأزهر وشبابه وطائفة من المثقفين، وكوَّن بها مكتبة كبيرة كانت مكتبته الخاصة نواة لها، وأصدر مجلة باسمها كانت تحمل الروائع من التفسير والتشريع واللغة والتاريخ.
وإلى جانب هذا النشاط الوافر تولى رياسة تحرير مجلة نور الإسلام (الأزهر الآن) التي أصدرها الأزهر في محرم 1349هـ/1931م، ودامت رئاسته لها ثلاثة أعوام، كما تولى رئاسة تحرير مجلة لواء الإسلام سنة (1366هـ/1946م).
وتحمَّل إلى هذه الأعباء التدريس بكلية أصول الدين، فالتف حوله الطلاب، وأفادوا من علمه، وعندما أُنشئ مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1350هـ/1932م) كان من الرعيل الأول الذين اختيروا لعضويته، كما اختير عضوًا بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وأثرى مجلة مجمع اللغة بالقاهرة ببحوثه عن صحة الاستشهاد بالحديث النبوي، والمجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية، وطرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية.

مواقف من حياته:
-----------

ضرب الخضر حسين أروع الأمثلة في الصدق والشجاعة، نذكر منها على سبيل المثال: أنه عندما كان في ألمانيا حضر عند مدير الاستخبارات الألمانية وكان معه سكرتيره، وذلك أثناء سفرهم إلى قرية ألمانية، وفي نهاية الحديث سأله المدير: أليس كذلك يقرر ابن خلدون؟
فقال له: وماذا يقرر؟
قال: إنَّ العرب لا يصلحون لمُلْك، ولا يحسنون حُكمًا للأُمم.
فقال له: إنما خصَّ ذلك بعهد الجاهلية، وقررَّ أنهم في الإسلام أحسنوا السياسة، وقاموا بأعباء المُلْك خير قيام، وقد بيّنَ ذلك غاية البيان في فصل عقده في مقدمته.
وهذا يدل على أن الشيخ كان قارئًا جيدًا واعيًا حاضر الذهن.
ومن مواقفه أيضًا أن السلطات الفرنسية في تونس دعته ليكون عضوًا في المحكمة المختلطة التي يكون فيها قضاة مسلمون وأجانب، فرفض؛ لأن المحكمة تحكم بغير ما أنزل الله، ولأن المحكمة قائمة في ظل الاحتلال وستخدم مصالحه.

ومن مواقفه الجريئة أنه حاضر في تونس عن «الحرية في الإسلام» أثناء وجود الاستعمار الفرنسي فيها، وذلك في نادي قدماء مدرسة الصادقية الثانوية، فقال: «إن الأمة التي بُليتْ بأفراد متوحشة تجوس خلالها، أو حكومة جائرة تسوقها بسوط الاستبداد هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد، وننفي عنها لقب الحرية». ثم بيّن الآثار السيئة للاستبداد في شجاعة وجرأة، وقد تناقل الناس مضمون المحاضرة ووصلت أخبارها إلى الشام وغيرها.
وفي مصر كان له موقف مشرف حين طالب أحد أعضاء مجلس الثورة بمساواة الجنسين في الميراث، ولمّا علم الشيخ بذلك أنذرهم إنْ لم يتراجعوا عن هذا فسيلبس كفنه، ويدعو الشعب إلى زلزلة الحكومة والقيام عليها لاعتدائها على حكم من أحكام الله، فكف ذلك العضو عما نواه من تغيير حكم الله تعالى.
الخضر حسين شاعرًا:

للشيخ شعر جيد كثير ضمّنَ بعضه في ديوان منشور، سماه «خواطر الحياة»، فمنه في ذم الكماليين (أنصار كمال أتاتورك) الذين ألغوا الخلافة:

ما خَطْبُ قومٍ طالما وصـلوكِ
واعتز باسمكِ عرشُهم هجروكِ
حرسوكِ أحقابًا وحَلّق صيتهم
في الخافقيـن لأنهم حرسـوكِ

ومن شعره أيضًا حين نصحه بعض أصحابه بالرجوع إلى الشام وترك مصر:

يقول: تقيم في مصر وحيدًا
وفقد الأُنس إحدى الموتتين
ألاَ تَحْدو المطية نحو أرض
تعيـد إليك أنس الأُسرتين
وعيشًا ناعمًا يدع البقـايا
من الأعمار بِيضًا كاللُجين
فقلت له: أيحلـو لي إياب
وتلك الأرض طافحة بغَيْنِ
وما غينُ البلاد سوى اعتساف
يدنسها به خُرْق اليدين

ومدح الأمير/ عبدالكريم الخطابي، يوم جاء من منفاه، واستطاع بعض المخلصين تخليصه في السويس وهو في طريقه إلى سجنه بفرنسا، فقال على الباخرة مرحبًا به:

قلتُ للشـرق وقد قـام على
قـدم يَعِرض أرباب المزايـا
أرنـي طلعـة شهم ينتضـي
سيفه العَضْب ولا يخشى المنايا
أَرِنيـها إننـي مـن أُمــةٍ
تركب الهول ولا ترضى الدنايا
فأراني بطـل الريـف الـذي
دحـر الأعداء فارتدوا خزايا

مؤلفاته:
-----

ترك الشيخ عددًا من الكتب والمؤلفات أشهرها: «رسائل الإصلاح» و«الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان»، و«الحرية في الإسلام»، و«محمد رسول الله خاتم النبيين»، و«نقض كتاب الشعر الجاهلي» لطه حسين، و«نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق، و«تونس جامع الزيتونة»، و«أديان العرب قبل الإسلام»، و«بلاغة القرآن» و«القياس في اللغة العربية». وكذلك «الخيال في الشِّعر العربي»، و«آداب الحرب في الإسلام»، و«دراسات في العربية وتاريخها»، و«حياة ابن خلدون»، و«تونس.. 67 عامًا تحت الاحتلال الفرنساوي»، و«تعليقات على كتاب الموافقات للشاطبي» و«خواطر الحياة» (ديوان شعر) وغيرها كثير. وكذلك افتتاحيات مجلة «لواء الإسلام»، ومجلة «نور الإسلام»، بالإضافة إلى مئات المقالات والمحاضرات.

قالوا عنه:
-----

قال فيه العلامة عبدالمجيد اللبان - رئيس لجنة امتحان شهادة العالمية بالأزهر - يوم تقدم إليها للاختبار: «هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج».
وقال عنه الشيخ العلامة محمد علي النجار: «إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره، إلاَّ في النُّدْرَى؛ فقد كان عالمًا ضليعًا بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شئونهم، حفيظًا على العروبة والدين، يردّ ما يوجه إليهما وما يصدر من الأفكار، منابذًا لهما، قوي الحجة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم».
وقال عنه العلاَّمة/ محمد الطاهر بن عاشور: «إنه من أفذاذ علماء الإسلام، وقد كان قليل النظير في مصر».
وقال عنه عباس العقـاد إنه: كان من أنصار الدعوة الإسلامية؛ لأنها صالحة لكل زمان، مهما تتجدّد مذاهب المعرفة.. وقد تساوَى في نظر الشيخ الخضر كلا الطرفين من المسلمين، وهما طرف اليسار من المتعلمين، الذين جاوزوا حدود الإسلام، وطرف اليمين من الجامدين، الذين جاوزوا؛ فضيّقوا حدوده عليهم، وإن لم يجاوزوه!
وقال عنه الدكتور محمد رجب البيومي: ومن يطالع كتابه «رسائل الإصلاح» بأجزائه الثلاثة يدرك يقينه الثابت بماضي الأمة وعزتها.

---------------------------------------------
[1] مسألة تأليف النسخ مصطفى عبد الرازق الذي أنكر فيه أن يكون الإسلام دين ودولة هو نقل عن كتاب مستشرق غربي وقد تطرق العلماء لبيان هذه الفكرة من العلماء آنفي الذكر. وقد ذكر أن الشيخ تبرأ من الكتاب ذكر ذلك الأديب المعروف محمد رجب البيومي رحمه الله تعالى.

..............................................................................................................................................................................................................................................................................................

وهاك ترجمة ثالثة له رحمه الله:

شيخ الأزهر محمد الخضر حسين

ولي الأزهر في العصر الحديث شيوخ كثيرون كانوا ملء السمع والبصر، لكن قليلاً منهم كان مثل الشيخ محمد الخضر حسين علمًا وعملاً وحرصًا على المسلمين، هذا ولم يَلِ الأزهر غير مصري في العصر الحديث إلا الشيخ محمد الخضر حسين فيما أعلم.

وقد عاش الرجل في مدة مليئة بالأحداث منذ بدايات القرن الرابع عشر الهجري الموافق العشرين الميلادي.

مولده ونشأته:
ولد - رحمه الله تعالى- في مدينة نَفْطة بتونس في 26 رجب سنة 1293هـ الموافق 16 أغسطس 1876م، وأصل أسرته من الجزائر، من عائلة العمري، من قرية طولقة، وهي واحة من واحات الجنوب الجزائري، وأصل أمه من وادي سوف بالجزائر أيضًا وأبوها هو الشيخ المشهور مصطفى بن عزوز وخاله الشيخ المشهور محمد المكي بن عزوز.

واسم الشيخ هو محمد الأخضر بن الحسين بن علي بن عمر، فلما جاء إلى الشرق حذف "بن" من اسمه على الطريقة المشرقية، وغلب عليه الخضر عوضًا عن الأخضر، ونشأ الشيخ في أسرة علم وأدب من جهتي الأب والأم، وكانت بلدة نَفْطة التي ولد فيها موطن العلم والعلماء، حتى إنها كانت تلقب بالكوفة الصغرى، وبها جوامع ومساجد كثيرة، وهي واحة بها زرع وفيها فلاحون.

ونشأ الشيخ في هذه البيئة طالبًا للعلم فحفظ القرآن، ودرس العلوم الدينية واللغوية على يد عدد من العلماء منهم خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز الذي كان يرعاه ويهتم به، وحاول الشيخ منذ سن الثانية عشرة أن يقرض الشعر، ثم برع فيه بعد ذلك.

ولما بلغ الشيخ سن الثالثة عشرة انتقل إلى تونس مع أسرته ودرس في جامع الزيتونة وهناك درس على يد خاله محمد المكي بن عزوز الذي كان له شهرة كبيرة بالجامع ويدرس فيه مجانًا، ودرس على يد مشايخ آخرين أبرزهم الشيخ سالم بوحاجب الذي كان من أعمدة الإصلاح في تونس، درس على يديه صحيح البخاري، وقد تخرج الشيخ في الزيتونة سنة 1316هـ/1898م، وألقى دروسًا في الجامع في فنون مختلفة متطوعًا، وبقي كذلك مع حضور مجالس العلم والأدب المختلفة.

وفي شهر محرم سنة 1322هـ/ إبريل 1904م أنشأ مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول مجلة عربية ظهرت في تونس، وكانت تصدر كل نصف شهر، ولم يصدر منها سوى 21 عددًا ثم انقطع صدورها، وقد كان الشيخ يكتب أغلب مقالاتها.

وقد وُجهت بنقد من قبل بعض الجامدين؛ لأن الشيخ أيّد فيها بقاء باب الاجتهاد مفتوحًا، وكانت المجلة تتسم بالنقد الهادف واحترام التفكير الجيد.

رحلته إلى الجزائر:
وفي سنة 1321هـ/1903م ارتحل إلى الجزائر، وفي السنة التي تليها ارتحل إليها أيضًا، وزار معظم المدن الجزائرية، وقصد العاصمة الجزائر فزار المساجد والمكتبات، وحضر بعض الدروس الدينية واللغوية، كما شارك في بعض المجالس الأدبية وألقى بعض الدروس الشرعية.

مناصب الشيخ الخضر حسين في تونس:
1- توليه منصب القضاء: تولى منصب القضاء في بلدة بنزرت، ولم يكن يريده لكن الشيخ الإمام العلامة محمد الطاهر بن عاشور أقنعه بالقبول واشتد عليه فيه، لكنه بقي أشهرًا قليلة ثم استقال، وعاد إلى تونس ليعاود التدريس في الزيتونة، وكان أثناء بقائه في بنزرت مباشرًا الخطابة والتدريس في جامعها الكبير، وكان له فيها دروس شرعية وأدبية.

2- عضوية الجمعية الزيتونية: كان عضوًا في الجمعية الزيتونية التي يرأسها الإمام العلامة محمد الطاهر بن عاشور، وهي خاصة بمشايخ جامع الزيتونة، فك الله أسره وأعاد مجده.

3- التدريس في جامع الزيتونة، والقيام على خزانة كتبه.

4- التدريس بمدرسة الصادقية، وكانت الثانوية الوحيدة في تونس.

رحلته إلى بلاد الشام:
للشيخ ثلاثة إخوة أدباء فضلاء تركوا تونس واستقروا في الشام، وكان منهم زين العابدين أخوه العالم الذي كان يلقي الدروس في الجامع الأموي فأراد الشيخ زيارتهم، فغادر الشيخ تونس إلى الشام سنة 1330هـ/1912م عن طريق البحر، ومر بمالطة والإسكندرية ثم القاهرة وألقى درسًا في الأزهر، ثم ترك القاهرة إلى بورسعيد فيافا وحيفا، وفي كل مدينة من المدن كان يزور الأدباء والعلماء ويطلع على الكتب.

ثم دخل الشام فاستقبل استقبالاً حافلاً، وألقى دروسًا في الجامع الأموي في الحديث، واتصل بالعلماء والأدباء، وبقي شهرًا ونصفًا فيها ثم غادرها إلى بيروت في شوال سنة 1330هـ/1912م، ثم غادرها إلى إسطنبول ليزور خاله الشهير محمد المكي بن عزوز الذي اتخذها موطنًا له، ولم يلقه منذ خمس عشرة سنة، وبقي فيها شهرين ثم غادرها إلى تونس.

انتقاله إلى الشام:
بقي في تونس أسابيع قليلة ثم خرج منها -إلى غير رجعة- لما ضيق الاستخراب الفرنسي عليه تاركًا زوجه التي رفض أهلها أن يأخذها معه، وكان ذلك في سنة 1331هـ الموافق ديسمبر 1912م، فوصل دمشق ثم غادرها إلى الحجاز بالسكة الحديد للحج، وزار ألبانيا ودار في البلقان، ثم ذهب إلى الأستانة (إسطنبول)، ثم وصل دمشق واستقر فيها بحي الميدان ببيت إخوته الذين سبقوه إلى هنالك.

ودرّس في دمشق بالمدرسة السلطانية، واستمر كذلك حتى سجنه جمال باشا السفّاح والي الشام العثماني سنة 1335هـ/1916م، متهمًا إياه بالتآمر على السلطة الحاكمة، وبقي في السجن ستة أشهر -وقيل أكثر من ذلك- فلما خرج منه عاد إلى التدريس بالمدرسة السلطانية والجامع الأموي.

ثم طلبته وزارة الحربية العثمانية -أثناء الحرب العالمية الأولى- للعمل فيها مُنشئًا للرسائل العربية، فغادر دمشق إلى إسطنبول، ومن هنالك أرسلته الدولة العثمانية إلى ألمانيا مع مجموعة من المشايخ في مهمة سياسية تتمثل في تحريض المغاربة هنالك ضد الوجود الفرنسي في شمال إفريقيا وضد الإيطاليين في ليبيا، فبقي 9 أشهر تعلم فيها اللغة الألمانية واطّلع على عادات المجتمع الألماني، ثم عاد إلى إسطنبول فبقي فيها قليلاً، ثم عاد إلى برلين ليقيم فيها سبعة أشهر أخرى إلى أن انتهت الحرب العالمية الأولى وسقطت إسطنبول بأيدي الحلفاء.

وقد شارك أثناء إقامته في ألمانيا بكتابة تقرير مفصل عن مطالب الشعب الجزائري والتونسي، وقد رُفع هذا التقرير إلى مؤتمر الصلح المنعقد في فرنسا.

وحضر سنة 1336هـ/1917م فتح مسجد للجنود المسلمين في برلين، وألقى فيه محاضرة عن الحرية. ولم يأكل أثناء إقامته في ألمانيا اللحم؛ لأن الألمان لا يذبحون بالطريقة الشرعية، وإنما يضربون الحيوان على رأسه حتى يموت أو يخنقونه. وقد أُعجب بحب الألمان للعمل، وإقبالهم عليه حتى عَجَزتُهم.

عودته إلى دمشق:
لما سقطت إسطنبول بأيدي الحلفاء عاد من هامبورج بألمانيا إلى إسطنبول بباخرة أقلّته ومن معه من العثمانيين، ومنها عاد إلى دمشق التي كانت قد خضعت للحكم العربي -بعد زوال العثمانيين- بقيادة فيصل بن الشريف حسين. وفي دمشق انضم إلى المجمع العلمي العربي عضوًا عاملاً، ثم لما استقر بمصر بقي عضوًا مراسلاً.

الشيخ محمد الخضر حسين في مصر:
لما سقطت الشام في أيدي الفرنسيين 1339هـ/1920م ما وسعه المقام فيها؛ وذلك لأن الفرنسيين كانوا قد حكموا عليه غيابيًا في تونس بالإعدام لاتهامه بالمشاركة في تحريض المغاربة بألمانيا وتركيا على الثورة ضد الفرنسيين في شمال إفريقيا، فهرب إلى مصر، وبقي فيها إلى نهاية حياته المباركة.

وعمل في مصر مصححًا بدار الكتب المصرية بشفاعة أحمد تيمور باشا الذي عرف قدره، وكان يلقي المحاضرات والدروس في مساجدها، ويكتب المقالات المتنوعة الكثيرة.

وفي القاهرة أنشأ "جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية" التي تهتم بالمغاربة من الناحيتين الثقافية والاجتماعية، وذلك سنة 1342هـ/1924م، وبعد عشرين سنة ألف جمعية "جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية".

وفي تلك المدة أسقط الهالك أتاتورك الخلافة الإسلامية، ومن ثم تطلع الناس إلى بلد آخر ليكون مهدًا للخلافة، فاتجهت الأنظار إلى مصر، وآنذاك كتب الشيخ علي عبد الرازق كتابه المشئوم "الإسلام وأصول الحكم"، أنكر فيه أن يكون للإسلام سلطة ودولة إنما هو سلطة روحية فقط، فقامت عليه قيامة العلماء والمفكرين بمصر، وفصل من هيئة كبار العلماء في محرم سنة 1344هـ/1925م، واتهم بالزندقة والإلحاد، وحينئذ ألف الشيخ محمد الخضر حسين كتابه الشهير الذائع الصيت "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، ونال به حظوة عند الملك فؤاد -الذي كان يطمع بالخلافة- وجَمْعٍ من العلماء والأدباء والمفكرين والمثقفين، وعظمت به شهرته، وطار به صيته، وقد أهدى الكتاب لخزانة الملك فؤاد.

- وفي مصر اختلف مع طه حسين عندما ألف كتابه "في الشعر الجاهلي"، وكان في الكتاب انحراف خطير واتباع لأقوال المستشرق الإنجليزي مرجليوث وطعن في القرآن، فاشتد غضب علماء الأزهر حين صدر هذا الكتاب، وحاكموا صاحبه إلى محاكم مصر التي كانت تحت التأثير الإنجليزي فبرأته، وهنا ألف الشيخ محمد الخضر كتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، الذي كان باعتراف طه حسين من أهم الردود عليه وأشدها حجة.

وفي سنة 1346هـ/ 1928م شارك في تأسيس "جمعية الشبان المسلمين"، ووضع لائحتها مع صديقه محب الدين الخطيب.

- وفي مصر أنشأ "جمعية الهداية الإسلامية" مع بعض المشايخ منهم شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، وذلك في سنة 1346هـ/1928م لمّا رأى التفسخ الخلقي آخذًا في الانتشار بين كثير من شباب مصر آنذاك، وكان من أهداف الجمعية محاربة الفساد والإلحاد، والتعريف بالإسلام، والسعي لتمتين الصلات بين الشعوب الإسلامية والسعي لإصلاح شأن اللغة العربية وإحياء آدابها، وأصدر مجلة "الهداية الإسلامية" لتكون لسان حال الجمعية، وأُلقيت المحاضرات في المساجد والنوادي خاصة التي تتبع هذه الجمعية، وقد رَأَس الجمعية الشيخ محمد الخضر حسين، وفيها بعض الأعضاء البارزين مثل الشيخ علي محفوظ، والشيخ عبد الوهاب النجار، وفتحت الجمعية فروعًا في مصر وسوريا والعراق.

وقد توقف صدور المجلة بعد ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية.

مناصب الشيخ محمد الخضر في مصر:
- التدريس في الأزهر: اختير الشيخ محمد الخضر حسين للتدريس في قسم التخصص بالأزهر، وهذا دال على مدى علمه؛ إذ لا يدرس في الأزهر آنذاك إلا كبار العلماء.

- رئاسة تحرير مجلة الأزهر: اختير الشيخ محمد الخضر لتولي رئاسة تحرير مجلة الأزهر التي صدرت في بداياتها باسم "نور الإسلام" وذلك سنة 1349هـ/1931م، ثم تحولت إلى مجلة الأزهر، وما زالت تصدر إلى يومنا هذا، وبقي الشيخ فيها إلى أن عزل عنها بعد أربع سنوات.

- وتولى رئاسة تحرير مجلة "لواء الإسلام" سنة 1366هـ/1946م.

- وفي القاهرة اختير عضوًا بـ"مجمع اللغة العربية الملكي" عند إنشائه سنة 1351هـ/1932م.

- واختير عضوًا لهيئة كبار العلماء سنة 1370هـ/1950م.

- ثم اختير شيخًا للأزهر بعد ثورة يوليو في سنة 1371هـ/1952م، وفي عهده أرسل وعاظًا أزهريين إلى السودان، ثم استقال منه بعد أقل من سنتين، وفي ولايته للأزهر دلالة على رفعة شأنه عند العلماء والساسة، فقد كان الأزهر أعظم مؤسسة إسلامية في العالم الإسلامي، وقد قال الشيخ العلامة الأستاذ محمد الفاضل بن عاشور التونسي عند اختيار الشيخ محمد الخضر شيخًا للأزهر: "ليحق لهذه الحقبة من التاريخ التي تُظِلُّنا أن تفخر بأنها بلغت فيها الصلات بين الأزهر والزيتونة أوْجها؛ فقد احتضن الأزهر إمامًا من أئمة الأعلام، كان أحد شيوخ الزيتونة العظام".

وقد أحسنت مصر وفادته منذ نزل إليها سنة 1339هـ/1920م، وتجنس بجنسيتها وبقي فيها إلى وفاته، ودفن فيها.

الشيخ الخضر حسين وعلاقته بالسياسة:
كان للشيخ -رحمه الله تعالى- بعض الأفكار في باب السياسة، وخاض في شيء منها فقد كان مهتمًّا بالاتحاد الإسلامي، حريصًا على تفقد أحوال المسلمين، متألمًا مما نزل بهم، وكان -رحمه الله تعالى- حسن الصلة بوطنه تونس، حريصًا على تتبع أحواله، وإعانة أبنائه في كل الميادين، وكان بيته قبلة للتونسيين القادمين إلى القاهرة، وسخر مكانته العلمية والدينية من أجل مساعدة المدافعين عن قضية تونس خصوصًا، والمغرب العربي الكبير عمومًا، فعرف بهم السلطات والهيئات والمسئولين في مصر، وأنشأ جمعيتين لهذا الغرض كما ذكرنا آنفًا.

وقد ذكرنا من قبل أن الدولة العثمانية ابتعثته إلى ألمانيا في مهمة سياسية، حكمت عليه فرنسا من أجلها بالإعدام.

لكن الشيخ لم يكن يحب الحديث في المجالات السياسية في مجلته "الهداية الإسلامية"، ولا في مجلة "نور الإسلام" التي أصبحت الأزهر فيما بعد، حتى إنه قد جرت أحداث مهمة في تونس والمغرب في ذلك الوقت لكن الشيخ لم يكن يذكرها، ولعل مرد ذلك إلى تخوفه من الدخول في غمار شئ لا يدري ما عواقبه في مصر.

والسبب الأقوى هو أن الشيخ كان مهتمًّا بالإصلاح التربوي والاجتماعي والديني أكثر بكثير من اهتمامه بالسياسة التي أكد على البعد عنها في افتتاحية العدد الأول من مجلة "الهداية الإسلامية" ومجلة "نور الإسلام" في عددها الأول أيضًا، وهي التي أصبحت مجلة "الأزهر" فيما بعد، وهذا مما أثار عليه حفيظة الشيخ محمد رشيد، يعني عدم تعرضه للسياسة في المجلتين أنه بعيد في حياته العملية عنها، بل قد كان بها ذا صلة كما بينا آنفًا.

صفات الشيخ محمد الخضر حسين:
كان الشيخ -رحمه الله تعالى وإيانا- مؤثرًا للهدوء في النقاش والحديث، عَفّ اللسان، جريء الجنان، محبًّا للإصلاح، عاملاً على جمع الكلمة، ومن أبرز صفاته الزهد فقد كان ظاهرًا فيه طوال حياته، وكان يردد كثيرًا: "يكفيني كوب لبن وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العَفاء".

وهو -بلا شك ولا ريب- صاحب همة عالية، أهّلته للوصول إلى ما وصل إليه، رحمه الله وإيانا.

مواقف من حياة الشيخ الخضر حسين:
- عندما كان في ألمانيا حضر عند مدير الاستخبارات الألمانية وكان معه سكرتيره، وذلك أثناء سفرهم إلى قرية ألمانية، وفي نهاية الحديث سأله المدير: أليس كذلك يقرر ابن خلدون؟

فقال له: وماذا يقرر؟

قال: إن العرب لا يصلحون لملك، ولا يحسنون حكمًا للأمم.

فقال له: إنما خص ذلك بعهد الجاهلية، وقرر أنهم في الإسلام أحسنوا السياسة، وقاموا بأعباء الملك خير قيام، وقد بيّن ذلك غاية البيان في فصل عقده في مقدمته.

وهذا يدل على أن مدير الاستخبارات الألماني كان متابعًا لأحوال العرب، وأن الشيخ محمد الخضر كان قارئًا جيدًا واعيًا حاضر الذهن.

- ومن مواقفه الجيدة أن السلطات الفرنسية الاستخباراتية في تونس دعته ليكون عضوًا في المحكمة المختلطة التي يكون فيها قضاة مسلمون وأجانب، فرفض؛ لأن المحكمة تحكم بغير ما أنزل الله، ولأن المحكمة قائمة في ظل الاحتلال وستخدم مصالحه.

- ومن مواقفه الجريئة أنه حاضر في تونس عن الحرية في الإسلام أثناء وجود الاستخبار الفرنسي فيها، وذلك في نادي قدماء مدرسة الصادقية الثانوية، قال فيها: "إن الأمة التي بُليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها، أو حكومة جائرة تسوقها بسوط الاستبداد هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد، وننفي عنها لقب الحرية". ثم بيّن الآثار السيئة للاستبداد في شجاعة وجرأة، وقد تناقل الناس مضمون المحاضرة ووصلت أخبارها إلى الشام وغيرها.

- وفي مصر كان له موقف مشرف حين طلب أحد أعضاء مجلس الثورة مساواة الجنسين في الميراث، ولما علم الشيخ بذلك أنذرهم إن لم يتراجعوا عن هذا فسيلبس كفنه، ويدعو الشعب إلى زلزلة الحكومة والقيام عليها لاعتدائها على حكم من أحكام الله، فكف ذلك العضو عما نواه من تغيير حكم الله تعالى.

- وقد استقال من الأزهر عندما حدثت الحادثة العظمى بضم القضاء الشرعي إلى القضاء الأهلي الذي اخترعه الاستخبار الإنجليزي، وكان يرى -كما يرى كل مسلم- بوجوب حدوث العكس وهو إلغاء القضاء الأهلي وتثبيت الشرعي.

وكان يقول عن وظيفته في الأزهر: "إن الأزهر أمانة في عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأتّ أن يحصل للأزهر مزيد الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص".

ومن شعر الشيخ الخضر حسين:
للشيخ شعر جيد كثير ضمن بعضه في ديوان منشور، سماه "خواطر الحياة"، فم