الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤

عنزة ولو طارت

السبت ٤ ربيع أول ١٤٣٨ هـ - ٢٢:٤٢ م - ٠٣ ديسمبر ٢٠١٦
1871


"عنزةٌ ولو طارت"



 يُحْكى أن رجلين شاهَدَا جِرْمًا أسود في أسفل الوادي وراحا يتكهنان في أمره قال الأول: إنه طير كبير

 وقال الثاني: لا بل هو عنزة

 وراح كل واحد منهما يعزز رأيه بدليل، وإذا بالجِرْم المذكور يفتح جناحيه ويطير، فقال الأول: ألم أقل لك إنه طير؟

 قال الثاني: لا.. بل عنزة ولو طارت

 فصار مثلا يُضرب لمن يعاند في الحق بعد وضوحه

ويُكابِر الأدلة الحسية.

 

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

وعلى آله وصحبه أجمعين

فهذه مقالة نفيسة ضمن كتاب يوم "الغضب" للدكتور الحوالي -حفظه الله تعالى-

 يقول فيها:

آية من آيات الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أن يبقى بيت الله الأول الذي رَفَع قواعده إبراهيم عليه السلام ظاهِرًا معمورًا محفوظًا مقدسًا على ما يزيد على 4000 سنة بل أكثر فلقد حج إليه الأنبياء قبل إبراهيم عليه السلام وكان مصونًا مقصودا زمن عاد وثمود، وفي الوقت نفسه تندثر هياكل بابل ونينوى وأورشليم، وتماثيل قوم نوح، وأصنام عاد وثمود وقرون بين ذلك كثير.

وأن يُسْقِط أهل الكتاب أنفسهم في الحفرة نفسها مع أنهم يدعون الانتساب إلى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فهم ينقِبُّون ملفات التاريخ المأثور والمطمور، والنهاية إما ألا يجدوا شيئا، وإما أن يجدوا ما يشهد لدين الله لا لدينهم.

إن كل ما أوتيه القوم من زينة الحياة الدنيا لا يسليهم من غم الحسرة ولا يَبُل جمرة الحسد الذي يأكل قلوبَهم حين يرون هذه الأُمَّة الأُمِّية تملك ناصية الحقيقة وتتقلب في نعيم النور.

 هؤلاء البائسون يحفرون في تركيا وشمال العراق وجنوب مصر وفي كل مكان فلا يجدون إلا بواصل تُشِير باستمرار إلى منبع الحضارة الإنسانية ومركز القيادة العالمية جزيرة الأُمَّة الأُمِّية.

هذا شأنهم منذ قرون، ومئات الملايين من الجنيهات والدولارات يُنْفِقون لتنطِق الشواهدُ كلها عليهم، فهل رأيت من يستأجر محاميًا لإثبات دعوى خَصْمِه .. إنها حكمة الله.

 نحن المسلمين تشهد لنا نصوص الكتب المقدسة، وتخدمنا حقائق التاريخ، ويُسَخَّر أعداؤنا للشهادة لنا .. لماذا؟

 لأننا نؤمن برسل الله جميعا، ونُقَدِّس كل ما قدَّسَه الله بلا عنصرية ولا هوى وموقفنا واضح كالشمس؛ فالمسجد الحرام هو المسجد الحرام سواء حين بناه آدم، وحين بناه إبراهيم، وحين بنته قريش على شِرْكِها وجلاهيتها وحين بناه المسلمون ومتى أعيد بناؤه كله أو بعضه إلى قيام الساعة.

وكذلك المسجد الأقصى عندنا هو المسجد الأقصى حين بُنِيَ أول مرة وحين بناه سليمان عليه السلام، وحين صلَّى فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحين بناه المسلمون بعد، ومتى أعيد بناؤه إلى قيام الساعة.

 

 ونحن نعتقد صِحَّة ما جاء في سِفْر الملوك من قول الله لسليمان عليه السلام بعد بناء المسجد وهو: "قَدَّست هذا البيت الذي بنيته لأجل وضع اسمي فيه إلى الأبد"

 فهذا حق ولا زلنا ولله الحمد نقدس هذا البيت ونعبد الله فيه.

 أما اليهود الذين أبوا إلا العنصرية والتلبيس فعن أي شيء يبحثون؟!

 إن كانوا يريدون المكان المقدسة عند الله فها هو ذا قائِم ظاهر فليعبدوا الله فيه كما شَرَع على لسان خاتم رسله وأنبيائه، ومجدد ملة إبراهيم عليه السلام، وماذا عليهم لو أسلموا فاهتدوا إلى الحق وعرفوا الحقيقة.

وإن كانوا يريدون البناء -الحجارة- مجرد البناء فما قيمة الحجارة في ذاتها إن كان ما يتعلق بها من الشعائر منسوخا أو باطلا لا يقبله الله.

 ولو قَدَّرْنا أن هذا البحث استمر إلى قيام الساعة ولم يعثروا على شيء ذي بال .. فما النتيجة؟

 النتيجة بلا ريب تكذيب وَعْدِ الله لسليمان عليه السلام ببقائه مُقَدَّسًا إلى الأبد

 فلماذا التعالي عن حقيقة شرعية دينية، وحقيقة تاريخية واقعية.

 

 إنه برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحدها تَطَابَق حُكْم الله الشرعي مع حُكْمِه الكوني القدري؛ فالمسجد المقدَّس دِينًا وشَرْعًا يُقَدَّس على أرض الواقع حَسًا ومشاهدة، أما الترتيب في الفضل والقداسة فمسألة أخرى ولها حِكَم عظيمة أعظم بكثير من وجود الهيكلة أو عدمه. حينما كانت النبوة في ذرية إبراهيم عليه السلام كان المسجد الأقصى مِحْوَر الأحداث ومسجد الأنبياء من ذرية إسحاق، ولمَّا أراد الله نزع النبوة والكتاب منهم وجعلها في فرع إسماعيل اقتضت حِكْمَته أن يولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البلد الحرام نفسه حيث تَعْلَمُ العرب قاطبة أنه من ذرية إسماعيل، وأن يولد في العام الذي صَدَّ الله أصحاب الفيل النصارى عن بيته الحرام، فأهل الكتاب لمَّا لم يجدوا بيتهم المزعوم وعجزوا عن تسخير القلوب للبيوت البديلة في روما وصنعاء سعوا إلى هدم بيت الله نفسه، وسيظلون يسعون حتى يهدِمُوه بين يدي الساعة.

 

وشَهِد صلى الله عليه وسلم بناء البيت قبل النبوة، ثم بعد بعثته حين أراد ربُّه الكريم أن يَفْرِض عليه أعظم شعائر الإسلام العملية "الصلوات الخمس"

 أَسْرَى به أولا إلى المسجد الأقصى وفي ذلك مِنَ العلاقة والرابطة ما فيه وهناك صلَّى بالأنبياء الكرام عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومن هناك عُرِج به إلى السماء وظل صلى الله عليه وآله وسلم يصلي إلى المسجد الأقصى مع تَشَوّقِه إلى أن يُصَلِي إلى الكعبة وكان الأمر في مكة له مخرج بأن يجعل الكعبة بينه وبين القبلة وتَعَذَّر ذلك حين هاجر إلى المدينة، وظلَّ صلى الله عليه وآله وسلم يستقبل المسجد الأقصى بِضْعَة عشرة شهرا لحِكْمة جليلة لو كان أهل الكتاب يعقلون.

 فإنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما يَتَّبِع ما يُوحَى إليه من ربه لا ما ترغبه نفسه.

 كما أن في استقباله للمسجد الأقصى ما ينطق بنبوته وتعظيمه للأنبياء، وأنه على سُنَّتِهم ومنهاجهم، ثم جاءه الأمر من ربه بالتحول فتحول إلى بيت الله الأول ومقام أبيه إبراهيم فكان ذلك تمحيصا للإيمان واختيارًا لهذه الأُمَّةِ الوسط، وحُكْمًا أبديًا على من لم يستقبل القبلة الجديدة ببطلان دينه ورد عبادته وحرمانه من اتباع ملة إبراهيم عليه السلام

 وشهادة عَظَيمَة على أن كفر أهل الكتاب إنما هو عن حسد وبغي مع معرفة واستيقان للحق، وهكذا جاءت آيات القبلة في كتاب الله المحفوظ في سورة البقرة، كقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:144]

وقوله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]

بل نجد السياق يمهد لذلك من أول السورة ولا سيما من قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124]

حيث نص على إسلام إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وأمر هذه الأمة بالإيمان بما أُنزل إليهم وأبطل قول أهل الكتاب لأنهم كانوا هودا أو نصارى.

آية كالشمس أن يضل اليهود والنصارى عن دين إبرهيم عليه السلام وقبلته ومسجده المحجوج المعمور الذي لا نظير له في الدنيا كلها فلو أن كنيسًا لليهود اجتمع فيه مرة واحدة في السنة مثلما يجتمع في هذا المسجد الحرام من المصلين في فريضة واحدة من الصلوات الخمس اليومية لجعلوه حادثا تاريخيا نادرا، ثم هم يبحثون وينقبون عما لا وجود له إلا في مخيلتهم التي أفسدتها الوثنيات منذ القدم وإذا جادل أهل الكتاب، وعميت أبصارهم عن هذه الآيات الباهرات فلن يستطيعوا أن يكابروا فيما هو مسطور في نفس كتابهم المقدس عن مكة والقبلة الجديدة.

فلنذكر طرفا من ذلك ليعلموا أنه لا حظ لهم في الإيمان ولا في ميراث الأنبياء إلا الدعاوى والأماني وأن الجري وراء سراب الموعودة والهيكل لن يُثمر لهم إلا البعد عن الصراط المستقيم والدخول في التيه الذي لا مخرج منه.

 فها هي ذي بعض صفات بيت الله الكعبة وبلده الحرام مكة من كتابهم المقدس نورد أكثرها بالنص الحرفي وبعضها بالمعنى اختصارا

نذكر الرقم ثم الصفة لهذا البيت الحرام 

و للكعبة ولمكة المكرمة من خلال كتبهم بااحرف

في أغلب الأحوال كما قال وبعضها بالمعنى لطلب الاختصار

واحد: أورشليم الجديدة أو أورشليم المشيحية -يعني في عهد المخلص الموعود-.

الثانية: في برية أو جبال فاران التي عاش فيها إسماعيل وأمه وأنبع الله لهم الماء فيها

-هذا كما في كتبهم فعندهم في التوراة مصطلح أن إسماعيل نشأ في برية فاران أي جبال مكة-.

 الثالثة: المدينة التي كان إبراهيم يتطلع إليها بشوق.

الرابعة: سكانها بنو قيدار

-وهذا الاصطلاح في التوراة يراد بها ذرية إسماعيل-.

الصفة الخامسة: هي بلد الأمين الصادق رئيس الخليقة

السادسة: ليس فيها هيكل.

السابعة: هيكل سليمان في كل عظمته لا يعتبر شيئا بالنسبة للبيت الجديد.

الثامنة: البيت الجديد شكله مكعب.

التاسعة: المكعبة فيها حجر كريم.

العاشرة: تتزين بالإكليل والحُلي كالعروس.

الحادية عشرة: يهابها كل من يناولها ولا يدنو منها الرعب.

الثانية عشرة: عند الكعبة نَبَع ماء الحياة مجانا فيه شفاء

-طبعا واضح هذه "زمزم"-.

الثالثة عشرة: تُفتح أبوابها ليلا ونهارا لا تُغْلَق.

الرابعة عشرة: تجثو عندها كل رُكْبَة في الكون.

الخامسة عشرة : تكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة لا يعبر فيها نجس.

السادسة عشرة: لا يدخلها شيء نجس.

السابعة عشرة: أبناؤها أكثر من أبناء القدس.

الثامنة عشرة: تضيق بسكانها والداعين فيها.

التاسعة عشرة: يسجد الملوك أمامها ويلحسون غبارها.

العشرون: تزول الجبال والآكام ولا يزول إحسان الله وسلامُه عنها.

الحادية والعشرون: تتحول إليها ثروة البحر ويأتي إليها غِنَى الأمم.

الثانية والعشرون: يجتمع إليها الناس ويأتون من بعيد.

الثالثة والعشرون: تضيق أرضُها عن الإبل والغنم القادمة من الغرب والشرق؛ سبأ ومدين وفاران وقيدار ويخدمها رجال مَأْرِب.

الرابعة والعشرون: لها جبل مبارك تسير إليه الأمم ليعبدوا الله فيه

-طبعا عرفة-.

الخامسة والعشرون: الكل عند البيت سواء في حرية التقرب إلى الله.

السادسة والعشرون: مكتوب اسم الله على جباه أهلها .. مكتوب اسم الله على جباه أهلها

-هذا إشارة إلى قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]-.

السابعة والعشرون: يمتنع العباد حول البيت عما يصدر عن الطبيعة

 -الإخراج البول أو الغائض-.

 الثامنة والعشرون: يكون رأس الرجل عاريا، والمرأة تغطي رأسها ويلبسون من الحِقْوين إلى الفخذين، ويجزون شعر رأسهم جَزًا

-الإحرام والتحلل-.

 

 لقد حار مفسرو التوراة بشأن هذه المدينة لأنهم لا يريدون الإقرار بالحقيقة.

 صفات جليلة كالشمس ولكنَّ مُفَسِّري الـ "  Bible " تعاموا عنها وتخبطوا في تفسيرات متناقضة

فتارة يزعمون أن هذه الأوصاف لمدينة سماوية مدينة في السماء، وتارة يزعمون أنها أورشليم رمزية، وتارة يزعمون أنها أورشليم الكاملة المشيحية التي ستكون في العهد الأَلْفِي السعيد.

 ولم يعلموا أنهم بهذه التفسيرات قد شهدوا على أنفسهم أنها ليست هي أورشليم القدس المعروفة وأن أهلها ليسوا بنو إسرائيل هؤلاء وهكذا أشرق الصبح لذي عينين ولله الحمد

وأظهر الله الحقيقة ولو كره الحاسدون

ومن شك في هذا من مثقفي الغرب فما عليه سوى أن يشاهد النقل الحي لشعائر التراويح أو الحج على الفضائيات ويقارن بين ما يقرأ من الصفات وما يرى بأُمّ عينه ليعلم لماذا خاطب الله علماء ملته بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [آل عمران: 71]

ويتذكر قول المسيح عليه السلام للمرأة السامرية حين سألته أَيْ قِبْلَتَي بني إسرائيل أفضل -تقصد القبلة التي في الجبل التي في سامرا أم التي في أورشليم- فحينما سألته أَيْ قِبْلَتَي بني إسرائيل أفضل؟

 أجابها المسيح عليه السلام: "صدقيني أيتها المرأة تأتي ساعة فيها تعبدون الرب، لا في هذا الجبل في السامرا ولا في أورشليم

وإذا ثبت هذا فالأمانة العلمية وحرية البحث توجب على كل عاقل أن يعيد النظر في كل النبوءات وأن يشك في كل التفسيرات ولن يجد حينئذ أي صعوبة في التمييز بين الأمة المصطفاة الموعودة بنصر الله وبين الأمة المغضوب عليها التي تقيم رجسة الخراب على أرض الأنبياء.

 وليعلم أن هذا مثال واحد فقط ولو عرضنا عليه نبوءات أخرى لكانت النتيجة نفسها.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم

سبحانك اللهم ربنا وبحمدك

أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك


موقع الشيخ محمد إسماعيل المقدم 

www.almukaddem.com