الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤

سلسلة رموز الإصلاح 16– علامة العراق أبو المعالي محمود شكري الألوسي

الثلاثاء ٢٤ محرم ١٤٣٨ هـ - ١٤:٠٥ م - ٢٥ أكتوبر ٢٠١٦
1714

تمهيد:

أعاد علامة العراق أبو المعالي وعائلته الألوسية لبغداد، عاصمة الخلافة، مجدَها العلمي الذي عرفته في أيام عزها، وذلك بدروسه المتميزة ومؤلفاته القيمة وتحقيقاته الثمينة، ولكن للأسف لم يلقَ أبو المعالي (وعائلته) ما يستحقونه من التكريم والتقدير، لا في حياته ولا بعد مماته، ومن ذلك أن سيرته لم تدوّن بشكل واف، ولا تزال بحاجة لمزيد من البحث والتنقيب وإظهار ما فيها من جهود مباركة في الإصلاح والتأسيس للصحوة الإسلامية التي نعيشها اليوم، حتى قال عنه محمد رشيد رضا: "ناصر السنة، قامع البدع، علامة المنقول ودراكة المعقول، دائرة المعارف الإسلامية، نبراس الأمة".

نشأته ودراسته:        

ولد جمال الدين أبو المعالى محمود شكري الألوسي في بيت جده العالم الكبير أبي الثناء الألوسي صاحب التفسير الشهير (روح المعاني) ببغداد في شهر رمضان من عام 1273هـ، ونشأ في عائلة عرفت بالعلم والأدب والديانة، فجده أبو الثناء محمود الألوسي كان عالما واسع الاطلاع، وتولى منصب مفتي الحنفية، وكان له منزلة في عصره حتى أنه أسندت إليه ولاية أوقاف مدرسة مرجان وهي مشروطة لأعلم أهل البلد، وعمه هو السيد نعمان خير الدين الألوسي وهو من كبار العلماء وتولى عددا من المناصب منها رئاسة مدرسة مرجان مثل أبيه، وله عدد من المؤلفات القيمة من أهمها كتابه (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين).

لم يدرك أبو المعالى جده فقد توفي قبل ولادته بسنتين، وقد درس على أبيه مبادئ العلوم وقراءة القرآن، وأخذ عنه الأدب والأخلاق الفاضلة، وختم القرآن الكريم وعمره 8 سنوات، ولكن توفي أبوه عام 1291ه وعمر محمود آنذاك 18 سنة، وكان أبوه متأثراً بالتصوف فأثر ذلك في ابنه محمود عدة سنين قبل أن تتوسع معارفه وعلومه وينتفض على خزعبلات التصوف وخرافاته، وتعد هذه هي المرحلة الأولى من مراحل منهج أبي المعالي.

وعقب وفاة أبيه كفله عمه نعمان الآلوسي والذي كان معاديا للتصوف والخرافة والتعصب، ويدعو للتمسك بالكتاب والسنة وفهم السلف والدليل، فرعاه ووجهه إلى البحث والمطالعة ومناقشة المسائل، وفتح له أبواب خزانته التي تحوي أمهات الكتب وذخائر المخطوطات وخاصة كتب ابن تيمية وابن القيم، ولكن أبا المعالي لم ينسجم مع عمه فانفصل عنه وبحث عمّن يشبه طريقة أبيه، وإن بقيت لتوجيهات عمه تأثيراً في نفسه تجاه الخرافات والتقليد والتصوف!

قال تلميذه المقرب الأستاذ محمد بهجة الأثري: "ولكن الشاب المتأثر بالعقيدة الخلفية والمتشبع بالروح الصوفية الموروثة له من أبيه وأستاذه الأول لم يستطع ملازمة عمه المستقل بعلمه وآرائه الضارب بالخزعبلات الصوفية والمذاهب التقليدية عرض الحائط، فصرف التعصبُ بصرَه عن عمه".

فلازم الشيخ إسماعيل بن مصطفى الموصلي النقشبندي، ودرس على الشيخ بهاء الحق الهندي، نزيل مدينة بغداد، والشيخ عبد السلام بن محمد بن سعيد النجدي الشهير بالشواف، ودرس عليهم النحو واللغة والتفسير والفقه والمصطلح والحديث.

وقد تعلم الألوسي اللغتين التركية والفارسية، وعددا من العلوم الدنيوية كعلم الهيأة (الفلك)، ولم يكتف الألوسي بذلك بل قام بمطالعة مئات الكتب والمخطوطات الموجودة بمكتبات بغداد، فتكونت له معرفة موسوعية ظهرت في كتبه وتحقيقاته، وكانت أولى مظاهر موسوعيته كتابه العجيب "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب"، وسوف نفصل فيه لاحقاً.

يقول الألوسي في ترجمته لنفسه عن هذه المرحلة:

"فوصلت الليل والنهار في التحصيل، وفارقت أخداني وأقراني، وانزويت عن كل أحد فاكملت قسما عظيما من الكتب المهمة في المنقول والمعقول، والفروع والأصول، وحفظت غالب متون ما قرأته من الكتب المفصلة والمختصرة، وأدركت ما لم يدركه غيري، ولله الحمد.

سهري لتنقيح العلوم ألذ لي                        من وصل غانية وطيب عناق

وتمايلي طربا لحل عويصة                        في الدرس أبلغ من مدامة ساق

وصرير أقلامي على أوراقها                      أشهى من الدوكاء والعشاق

وألذ من نقر الفتاة لدفها نقري                      لألقي الرمل عن أوراقي" أ.هـ

 

بداية التدريس والتأليف:

لا تسعفنا التراجم المتوفرة للألوسي بتفاصيل حياته في هذه المرحلة، لكنها تفيدنا أنه توجه للتدريس والتأليف مبكراً.

وهو في هذا يسير على خطى جده أبي الثناء حيث بدأ التأليف وعمره 13 سنة! و تصدى كذلك للتدريس مبكراً، فكان أول تصنيف لأبي المعالي الألوسي وعمره 21 عاماً وذلك سنة 1294هـ وهو كتابه "الروضة الغناء شرح دعاء الثناء".

ولم ينتظر أبو المعالى التكليف بالتدريس على عادة زمانه، فباشر بالتدريس متطوعا بدون راتب في داره وفي جامع عادلة خاتون، حيث درّس علوم اللغة والشريعة لجمع من الطلبة.

وحين ذاع صيته واشتهر الألوسي مع بلوغه سن الثلاثين جاءه التعيين الرسمي بالتدريس في مدرسة داود باشا، ثم أضيف إليه التدريس في مدرسة السيد سلطان علي، وقبل وفاته بـ 3 سنوات (عام 1340هـ) تم اعتماده رئيسا للمدرسين في مدرسة مرجان، والتي تسند إلى أعلم أهل بغداد كحال عمه وجده من قبله.

وكان الألوسي يقضي سائر نهاره في التدريس لطلابه، وكان حريصاً على وقته حيث كان يحضر للمدرسة مبكراً فإن تأخر الطلبة شغل نفسه بنسخ بعض المخطوطات أو المطالعة أو حفظ القرآن، وكان هذا ديدنه بعد انتهاء وقت التدريس حتى يدخل وقت الظهر فيرجع لبيته، ثم يعود للتدريس إلى ما بعد العصر، وبعدها إما يستقبل بعض الزوار في البيت أو يشتغل بالعلم حتى صلاة العشاء، ثم ينام بعدها ليستيقظ قبل الفجر للتهجد وللكتابة والمطالعة حتى قريب الشروق فيذهب للمدرسة، وهكذا يومياً، ولم يكن يدرس في صباح يومي الجمعة والثلاثاء ولكنهما كانا مخصصين للزائرين.

وكان الألوسي صاحب جَلَد على المطالعة والنسخ للمخطوطات والتأليف وساعده على ذلك أنه لم يتزوج قط، وكونه زاهداً في الدنيا فقد كان بسيط الثياب والأثاث، يقنع بأقل القليل، ورفض أن يقبل عطايا الاحتلال البريطاني مع شدة فقره وحاجته، وقاطع أخاه الأكبر حتى الموت حين قبل أن يصبح وزيراً للعدل في عهد الاحتلال البريطاني.

فالتف حوله الأذكياء، الذين وجههم محمود الألوسي للبحث والمناقشة والتأليف والعمل بما تعلموه بما ينفعهم وينفع مجتمعهم، وتجنب سلبيات التدريس السائدة في عصره والقائمة على التقليد والتلقين دون البحث والمناقشة، واقتصارها على بعض العلوم التراثية بدون تجديد في المناهج والأساليب، وهذا جانب في سيرة الألوسي يحتاج إلى مزيد من البحث والتوسع لكن التراجم المتوفرة لا تسعف في ذلك، كما أننا نفتقد إلى قائمة بتلاميذ الألوسي عبر ما يزيد عن 30 سنة!!  

وبقي الألوسي ملازماً للتأليف والتدريس طيلة عمره، وهما من أبرز وأهم الأدوار الإصلاحية التي قام بها، والتي كان لهما آثار ضخمة لم تقتصر على العراق أو على زمانه، بل امتدت آثار جهوده لخارج العراق وليومنا الحاضر.

 

فوزه بجائزة ملك السويد والنرويج عن كتابه "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب":

في عام 1302ه/ 1886م تلقى رسالة من أمين سر لجنة اللغات الشرقية عن مسابقة يرعاها ملك السويد والنرويج لتأليف كتاب عن تاريخ العرب قبل الإسلام، فتردد الألوسي في خوض التحدي خوفا من الاعتقاد بحرصه على الجائزة القيمة (1778 فرنكا ذهبيا)، لكن أصدقاءه حثوه على ضرورة إعلاء شأن العرب، فشمر عن ساعد الجد وصنف كتابه "بلوغ الأرب" الذي جاء في 3 مجلدات وأنهاه في عام 1304ه، وكان المميز في كتابه أنه جاء على غير مثال سابق ولا منهج مطروق مع صغر سن المؤلف الذي بالكاد كان في الثلاثين من عمره حين باشر بتأليفه!

وبرغم تقدم العديد من الشخصيات من بلاد مختلفة للمسابقة إلا أن التفوق والفوز كان من نصيب الألوسي حين أعلنت النتائج في عام 1307ه، فشاع ذكره وارتفع صيته، وتمت ترجمة الكتاب للتركية.

وقد تفنن الألوسي فيه بجمع أخبار وعادات العرب قبل الإسلام مما يدل على شرف معدنهم وقوة أخلاقهم مما جعلهم مؤهلون لقيادة العالم تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث للعالمين كافة.

وقد فتح فوزه بهذه الجائزة عليه باب التواصل بالزيارة والمراسلة مع الكثيرين من العلماء وطلبة العلم من مختلف دول العالم والتي جمعها الألوسي في كتاب ضخم لم يطبع بعد سماه "رياض الناظرين في مراسلات المعاصرين" وسبقه كتاب "بدائع الإنشاء" جمع فيه بعض رسائل أبيه، ثم بعض مراسلات العلماء والأمراء والأدباء له، ولو طبع هذان الكتابان لكشفا عن تاريخ مجهول في النهضة الثقافية المؤسسة لنهضة اليوم، ومن طالع كتاب المحقق الأستاذ محمد ناصر العجمي "مراسلات القاسمي والألوسي" يعرف أهمية هذه المراسلات التي كشفت عن جهود منظمة ومتواصلة لبعث تراث ابن تيمية وابن القيم وتراث المحققين من العلماء كالشاطبي والذهبي وغيرهما، وأنه كانت هناك شبكة علاقات ثقافية تمتد إلى الهند والحجاز والبحرين ومصر والغرب من أجل هذه الغاية الشريفة، وهو موضوع يحتاج إلى بحث مستقل بذاته.

 

علاقته مع أبي الهدي الصيادي:  

أبو الهدي الصيادي هو مستشار السلطان العثماني في اسطنبول وصاحب السطوة والنفوذ، وكان صوفياً غارقاً في الخرافات المزعومة للأولياء والبدع بدلاً من اتباع نور العلم الشرعي المستند للكتاب والسنة، ولما بدأ يظهر نجم أبي المعالي محمود الألوسي طلب منه الصيادي أن يشرح قصيدة له في مدح القطب الصوفي أحمد الرفاعي، وفعلاً قام الألوسي بتأليف كتابه "الأسرار الإلهية شرح القصيدة الرفاعية" وذلك في سنة 1305هـ، وكان سبب طلب الصيادي هذا الشرح من الألوسي أن جده أبا الثناء كان له شرح أدبي بديع على قصيدة لعبد الباقي العمري في مدح القطب الصوفي عبد القادر الجيلي سماه "الطراز المذهب شرح قصيدة الباز الأشهب"، فأراد الصيادي أن يكون له شرح بديع لقصيدته من حفيد أبي الثناء الألوسي.

لكن أبا المعالى الألوسي في هذه المرحلة (1303هـ) بدأت يتضح عنده ما يحتويه التصوف ومنهج الصيادي من انحرافات وخرافات وبدع، ولذلك نجده في شرحه لقصيدة الصيادي يمزج بين اللغة والأدب والشرع، ونجده ينقل عن ابن حجر المكي ثم ينقل عن ابن تيمية وابن القيم! ولكن هذا المنهج المعتدل لم يعجب الصيادي فبرغم قبوله للشرح وطباعته له، إلا أنه قام بإدخال بعض الأساطير والخرافات عليه قبل طبعه، وهو ما جعل الألوسي ينبّه على هذا العبث والتدخل في كتابه "غاية الأماني" وفند تلك الخرافات أبلغ تفنيد.

وكانت هذه المرحلة الثانية في منهج الألوسي، يصفها محمد بهجت الأثري بقوله: "ولما بلغ الألوسي هذا الطور من حياته واتسعت آفاقه الذهنية والعلمية رأيناه يبدأ حالا جديدة من أحوال التفكير والاجتهاد، ويعيد النظر فيما تعاوره في أثناء الشباب من أخلاط العقائد والنزعات المذهبية المختلفة...".

لم ييأس الصيادي فأرسل رسالة شكر له ومجموعة من كتب الطريقة الرفاعية وطلب منه الانضمام لها ورفع لوائها في العراق، مع إغرائه بالرفعة والتكريم عند السلطان، لكن أبا المعالي اعتذر منه في البداية بلطف وأنه مشغول بالعلم والتأليف والتدريس، لكن الصيادي عاود الكرّة مرة أخرى، ومرة أخرى اعتذر الألوسي وأعلن له أنه لا يقبل الخرافات التي تتردد في كتب الطريقة أو ما يقوم به بعض شخصيات الطريقة، ومما كتبه الألوسي للصيادي: "لا وقت لي لسلوك طريقة من الطرائق... ولا سيما وأن جميع من ينتمي إلى طريقتكم في الخطة العراقية جهلة أوباش عوام، لا يميزون بين اليمين من الشمال، ولا الحلال من الحرام، ديدنهم سؤال الناس، فيما يحتاجون إليه من الأكل واللباس... ولا شك أن مثل هذا لم يكن على عهد الشيخ أحمد ولا على عهد غيره من الأكابر، إنما أحدث ذلك جاهل بالشريعة الغراء، مناقض لمقاصدها العلية بلا مراء ... فالعفو يا سيدي عن سلوك طريقتك ... لأنني والحمد لله ممّن اشتهر حاله بالذب عن السنن والرد على كل زائغ من أهل البدع والأهواء والفتن".

 

نصرة الألوسي لمنهج السلف:  

في هذه المرحلة (الثالثة) استقر الألوسي وهو في مطلع الثلاثين من عمره على منهج السلف فبدأ بالذب عنه والدفاع عنه، وذلك بعد أن توسعت معارفه وطالع تفسير جده أبي الثناء "روح المعاني" والذي قام على التحقيق والتدقيق وطالع الكتب والمخطوطات ونبتت في قلبه القواعد التي زرعها عمه النعمان الألوسي.

قال الأثري عن هذه المرحلة النهائية في منهج الألوسي: "ثم ما لبث الألوسي أن أصحر عن انحيازه في جرأة وقوة إلى الحركة السنية السلفية، مع مقاومة الدولة العثمانية الصوفية لهذه الحركة الإصلاحية بكل قواها الرجعية".

ويعتبر عام 1305هـ هو الفاصل بين مرحلتين في تأليفات وحياة الألوسي، ففي عام 1306ه أعلن الألوسي عن موقفه الجديد من خلال كتابه "فتح المنان تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان"، والذي دافع فيه عن الدعوة الوهابية والشبهات التي تثار في وجهها، وقد قام بطباعته  في الهند الشيخ قاسم بن ثاني حاكم قطر عام 1309هـ.

وحين وصل الكتاب إلى أتباع الصيادي في العراق قامت قيامتهم ضده واستعدَوا عليه شيخهم أبا الهدى الصيادي، فكتب إليه معاتباً ومزج بين الوعد والوعيد، فلم يعبأ به الألوسي وكتب إليه يقول: "لم نزل متمسكين بهدي السادة السلف ... غاية الأمر أني أكره المغالاة في عباد الله، ولا تسمح نفسي أن أصفهم بصفات الألوهية ولو بلغ الأمر منتهاه... فما بلغك، صرير باب، وطنين باب، وإني بحمد الله لست ممن يحابي أمثالك، أو يرهب أقوالك وأفعالك".

وهكذا أصبح الألوسي عرضة لهجمات الخرافيين والمبتدعة، ومضى في طريقه لا يعبأ بهم وبمؤامراتهم، وبحسب تعبير الأثري: "ولأستاذنا الألوسي النصيب الأكبر احتسب حياته لخدمة الدين الإسلامي، وتطهيره من أوضار البدع والمحدثات، التي فتّت في ساعده، وبذل في ذلك غاية جهده، فجاهد أهل الحشو ودعاة عبادة القبور جهاد الأبطال في ساحات القتال".

وانكب الألوسي على التدريس والتأليف فزاد صيته وكثر قاصدوه من العلماء وطلبة العلم، وقد سجل الألوسي في ترجمته الذاتية ما يلي:

"ثم إني توغلت في اتباع سيرة السلف الصالح، وكرهت ما شاهدته من البدع والأهواء، ونفر قلبي منها كل النفور، حتى إني منذ صغري كنت أنكر على من يغالي في أهل القبور، وينذر لهم النذور، ثم إني ألفت عدة رسائل في إبطال هذه الخرافات فعاداني كثير من أبناء الوطن، وشرعوا يغيرون علي ولاة البلد، ويحرضونهم على كتابة ما يستوجب غضب السلطان علي وفعلوا ذلك مرارا".

وهنا تبدأ مسيرة الإصلاح الحقيقي للألوسي، والتي يمكن أن نلخصها في المجالات التالية:

 

1- المشاركة في الصحافة: ففي عام 1307ه دعاه الوالي سري باشا الكريدي وكان من العلماء أصحاب التأليف، وكان معجباً بمواهب الألوسي، فدعاه لرئاسة القسم العربي من صحيفة الزوراء التي تعد أول جريدة صدرت ببغداد في سنة 1286هـ وكانت تصدر بالعربية والتركية.

وحين تولى الألوسي القسم العربي لمدة سنة ونصف تقريباً ازدهرت وارتفع مستواها، وكان الألوسي يحرر المواضيع والأخبار ويكتب لها المقالات، وللأسف لم يقم أحد بجمع هذه المقالات ودراستها حتى نتصور أولويات الإصلاح عند الألوسي في المجتمع العراقي في تلك الفترة.

وبعد جريدة الزوراء نشر الألوسي بعض البحوث في عدد من المجلات مثل: سبيل الرشاد، والمقتبس، والمشرق، ومجلة المجمع العلمي العربي، والمنار وغيرها، وأيضاً تحتاج هذه الأبحاث إلى فهرسة وجمع حتى تعظم الفائدة منها.

 

2-  مواصلة جهوده في التدريس والتعليم في المدارس، ومجالس الوعظ والإرشاد في مساجد بغداد خصوصاً في جامع الإمام أبي حنيفة، وكانت نتيجة هذا أن تخرج على يديه نخبة من العلماء العراقيين تأثروا بفكره وعِلمه مثل: العلامة محمد بهجت الأثري، والأستاذ المؤرخ عباس العزاوي، والشيخ عبدالكريم الشيخلي المعروف بالصاعقة([1])، والشيخ رشيد حسن الكردي، والشيخ محمد القزلجي، والشيخ علي بن حسين الكوتي والشيخ الإمام أمجد الزهاوي وغيرهم من خيرة علماء العراق، وكذا عدد من أدباء وشعراء العالم العربي منهم الشاعر معروف الرصافي.

ومن غير العراقيين: المؤرخ الكويتي عبدالعزيز الرشيد، وسليمان الدخيل النجدي صاحب جريدة الرياض ومجلة الحياة في بغداد، وهو نجدي سكن بغداد، والشيخ محمد بن مانع من فقهاء نجد.

ومن تلاميذه غير المسلمين: الكاتب واللغوي العراقي الأب أنستاس الكرملي، وعدد من المستشرقين مثل لويس ماسنيون الفرنسي، ومرجليوت من إنكلترا.

 

3- الاهتمام ببعث التراث العلمي السلفي الذي يحارب أمراض الخرافة والجهل والسفسطة والجمود والتعصب، حيث كان الألوسي يقوم بتتبع الكتب النادرة والمهمة في مكتبات العالم من خلال مراسلاته مع العلماء والفضلاء، فإذا حصل على كتاب يقوم بنسخه بيده ويطلب من تلاميذه فعل ذلك لتكثر نسخه، ومن ثم قد يحتفظ بها لنفسه أو يرسل بها للمكتبات العامة الكبرى في البلاد المختلفة، مثل خزانة أحمد تيمور باشا، وخزانة أحمد زكي باشا بالقاهرة.

وأحياناً يقوم مع نسخ المخطوط بتحقيقه ونشره في إحدى المجلات المرموقة، وأحياناً كان يكاتب بعض الأغنياء في العراق وخارجه ليحثهم على طباعة الكتب المهمة.

يروي تلميذه محمد بهجة الأثري قصة اللقاء الأول معه فيقول: "سمع الألوسي بوجود بعض أجزائه – كتاب نقض أساس التقديس لابن تيمية – في دمشق ونجد، فجدّ في استكتابها حتى ظفر بها، ووافق وصولها إليه طلبي أخذ العلم عنه، فجعل شرطه علي نسخ هذا الكتاب وقراءته عليه، لأُفيد منه الأنظار الصحيحة في العلم وأصول البحث وطرائق الجدل والاحتجاج، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية أعظم فرسان هذا الميدان في الإسلام".

وفي حادثة أخرى تكشف عن مستوى جدية الألوسي ومثابرته وبعد نظره، يقول الأثري: "حمل إليه أحد تلاميذه القدماء ذات يوم مخطوطاً في "مثالب العرب!" قديم العهد، غفلا من اسم مؤلفه أُهدي إلى أمين الريحاني عند زيارته لبعض المدن العراقية .. فلما أجال نظره فيه، غضب أشد غضبة رأيتها منه، وساءه أن يهدى مثل هذا الكتاب إلى الريحاني، وخشي أن ينتهي إلى شعوبي من هؤلاء الشعوبيين المعاصرين الذين نشّأهم "الاستعمار الأوروبي" ليحارب بهم اليقظة العربية، فأخذه وشقّه شقين، احتفظ بأحدهما، ودفع إلي الآخر، وقام من فوره فقام من في المجلس لقيامه، وهو يقول لي: هذا كتاب خبيث يجب عليك نقضه، ولا أريد أن أراك في صبيحة الغد إلا قد أنجزت قسطك منه، والتقينا في صبيحة اليوم التالي ولدينا نسخة جديدة من الكتاب، يملك كل منا نصفها، ثم أكمل نسخته وأكملت نسختي، ورد النسخة القديمة إلى صاحبها لم تبت عندنا إلا ليلة واحدة، وعنيت بوضع ردي عليه من بعد، حتى إذا نشر الأصل كان الرد عليه حاضراً"، فانظر بالله عليك لهذه الهمة الفائقة في النسخ وهذه اليقظة للخطر القادم، والمبادرة لوضع رد على شبهة متوقع أن تروج، وقارن هذا بحالنا اليوم حيث الخطر يجتاحنا ويدمرنا ونحن نبحث في جزئيات وفرعيات لا طائل من ورائها، أو نضيع الأوقات والجهود في الحديث عن الخطر الذي يحاصرنا بدلاً من البحث عن الحلول والمخارج لورطتنا والانشغال بها!!

ومن الكتب المهمة التي نشرها الألوسي:

"منهاج السنة" وبهامشه "بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول"، وكلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية، طبع بمصر سنة 1321هـ.

"جواب أهل العلم والإيمان" لابن تيمية، طبع بمصر سنة 1322هـ.

"تفسير سورة الإخلاص" لابن تيمية، طبع بمصر سنة 1323هـ.

"مفتاح دار السعادة" لابن القيم، طبع بمصر سنة 1323هـ.

"شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" لابن القيم، طبع بمصر سنة 1323هـ.

"تأويل مختلف الحديث" للإمام ابن قتيبة، طبع بمصر سنة 1323هـ.

ومن استحضر طبيعة ذلك الزمان في ضعف وسائل النقل والاتصال يعرف كم هي المصاعب التي واجهت الألوسي في جمع هذه الكتب من بلاد شتى عبر وسائل البريد البطيئة، ثم نسخها يدوياً ثم مراجعتها والتعليق على بعضها، ثم إرسالها للقاهرة للصف اليدوي وبعضها يقع في عدة مجلدات، وكل ذلك بمجهودات فردية من رجل وحيد وفقير، حتى تخرج للناس فتضيء لهم طريق الحق وطريق السلف!

 

محنته عام 1322هـ:

بسبب جهود الألوسي الإصلاحية في التدريس والتأليف ونشر التراث، وكعادة المصلحين والمجاهدين فقد هاجمه أعداء الإصلاح فلفقوا ضده عدة تهم ووشايات كاذبة عند الوالي الجديد لبغداد عبدالوهاب باشا، والذي كان رجلاً جاهلاً ينصر الخرافة ويحارب الإصلاح والمصلحين، فانتهزوا الفرصة وقالوا له إن الألوسي يدعو للخروج على السلطان! وأنه يؤسس مذهباً يناصب كل الأديان العداء! وأن تأثيره خطير بين الناس! واستعانوا بشيخهم أبي الهدي الصيادي في عاصمة الخلافة، فصدر الأمر بنفي أبي المعالي وابن عمه السيد ثابت نعمان الآلوسي والحاج حمد العسافي النجدي رحمهم الله إلى الأناضول فوراً.

وفعلاً أُخذ الألوسي ورفاقه من بيوتهم واختبأ بعضهم وهرب البعض الآخر، ولكن عندما وصلوا للموصل في طريقهم للأناضول قامت قائمة الموصليين وخرجوا لاستقبال الألوسي ورفضوا إبعاده ورفاقه الذين يعدون من أعلام العراق الكبار، وراسلوا السلطان لتوضيح الموضوع وإلغاء الإبعاد.

وحين علم المتآمرون في بغداد بذلك، دبروا مؤامرة جديدة إذ أرسلوا مجموعة من كتب ابن تيمية بالبريد للموصل باسم الألوسي، ووشوا لبعض أتباعهم بالموصل بذلك حتى يورطوا الألوسي، وفعلاً ضبطت الكتب وعقد والي الموصل مجلساً لأبي المعالي أدانه فيه علماء السوء وطلبوا إتلاف الكتب ونفيه فوراً، لكن الله نجاه مرة أخرى من كيدهم، بفضل مساعي علماء الموصل المخلصين الذين كانوا يعرفون قدر الألوسي وفضله وبفضل جهود ابن عمه علي علاء الدين الذي كان يعيش في إستانبول، فجاء أمر السلطان بإبطال النفي وعودته لبلده مع إعادته لوظائفه التدريسية، وللأسف لا تسعفنا المصادر بمعرفة هؤلاء العلماء الموصليين ولا تفاصيل علاقة الألوسي بالموصل، والموصل من بلدان العراق التي عرفت الدعوة السلفية مبكرا.

فصدر العفو عنه وعن رفاقه بعد أن مكثوا شهرين في الموصل، فعادوا منصورين، وخرج أهل الموصل معه أميالاً يودعونه، وخرج أهل بغداد أميالاً يستقبلونه، وكتب الشيخ عبداللطيف بن ثنيان في صحيفته (الرقيب) مقالاً بعنوان: (الحمد لله عاد الحق لأهله).

وسجل الألوسي هذه المحنة فقال: "حتى ألجأوا بعض الولاة أن يكتب للسلطان بأن الأمر خطر إن لم يتداركه، وأن العراق يخرج من البلد بسبب تغير عقائد الأعراب إلى ما يخالف ما عليه الجمهور من العوام ولم يزل يلح حتى ورد الأمر بإبعادي إلى جهة ديار بكر 
فلما وصلت إلى الموصل قام رجالها على ساق، ومنعوني أن أتجاوز بلدتهم وكتبوا كتابات شديدة اللهجة إلى السلطان فجاء الأمر بعد أيام بعودي إلى بغداد مع مزيد الاحترام والإكرام وسقط في أيدي الأعداء ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله".

وبعد هذه المحنة لم يحد الألوسي عن منهج الحق والصدع به، وإن لجأ للحذر والاحتياط حتى لا يمكّن الخصوم منه، فصار ينشر بغير اسمه الصريح.

 

4- ومن أدواره الإصلاحية تأليف الرسائل والكتب النافعة لأهل زمانه، فقد مر معنا أن الألوسي بدأ التأليف وهو في الحادية والعشرين من عمره، وقد كان لديه "قوة على التأليف عجيبة" كما يقول الشيخ كامل الرافعي، ألف كتاباً من 70 كراسا في أربعين يوماً! ولذلك تزيد مؤلفات الألوسي عن خمسين كتاباً ورسالة في فنون متعددة شرعية ولغوية وتاريخية.

وكانت كتبه الدينية الإصلاحية هي مدار دعوته وتميزه في بغداد، فقد سعى من خلالها للدفاع عن العقيدة الإسلامية أمام شوائب الشرك والبدع التي عمت العالم الإسلامي، فمنها:

·        "فتح المنان تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان" والذي طبع سنة 1309هـ وسبق الحديث عنه.

·        "غاية الأماني في الرد على النبهاني" والذي طبع في سنة 1327هـ باسم غير صريح هو أبو المعالي الحسيني السلامي الشافعي، بسبب مؤامرات أعداء الإصلاح ضده وتأليب دولة الخلافة العثمانية عليه.

·        "الآية الكبرى على ضلال النبهاني في رائيته الصغري"، وهي منظومة للنبهاني رد فيها على كتاب الألوسي "غاية الأماني " وسب وشتم فيه النبهاني المصلحين في عصره، فرد عليه الألوسي بشكل مختصر.

·        "تاريخ نجد" كتبه عقب زيارته لنجد بتكليف من الدولة العثمانية، عرف فيها بنجد وأهلها ودافع عن عقيدتهم وأنها عقيدة السلف الصالح وليس كما يدعي أعداؤهم وخصومهم.

·        "فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية" لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، طبع بعد وفاته.

 

ومن الجهود التأليفية المهمة للألوسي تصديه لإبطال دعاوى التشيع ودحض عقائدهم، وقد ذكر هو ذلك في رسالته في الرد على العاملي في حصونه: "والفقير ردَّ عليهم (الشيعة) بنحو ألف ورقة فاغتصبته الحكومة ، وذلك بثلاث مصنفات أحدهما المسمى بـ (صب العذاب) " ومما فقد كتابه "رجوم الشياطين" في الرد على الشيعة، ومن مؤلفاته في الرد على الشيعة:    

·        "المنحة الإلهية تلخيص ترجمة التحفة الإثني عشرية" 1301هـ.

·        "السيوف المشرقة مختصر الصواعق المحرقة" 1303هـ.

·        "صب العذاب على من سبّ الأصحاب" 1304هـ.

·        "سعادة الدارين في شرح حديث الثقلين" 1336هـ.

 ومن كتبه أيضاً:

·        الدر اليتيم في شمائل ذي الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم.

·        تجريد السنان في الذب عن أبي حنيفة النعمان.

·        كنز السعادة في شرح كلمتي الشهادة.

·        الدلائل العقلية على ختم الرسالة المحمدية.

·        تاريخ بغداد.

5- مشاركته في إدارة ولاية بغداد، ففي سنة 1330هـ تمكن جمال باشا والي بغداد من إقناع الألوسي بقبول منصب عضو مجلس الإدارة في بغداد، بعد أن انتخبه البغداديون، فقبله بسبب الحرية المطلقة له في خدمة الناس والمصلحة العامة، لكن لا توجد لدينا تفاصيل عن المدة التي قضاها والإنجازات التي قام بها.

وهذه المشاركة تدل على الشعبية التي حظي بها الألوسي عند أهل بغداد، وأنه بسبب هذه المكانة كان يحرص الساسة والولاة على مشاورته وتقريبه، لكنه كان دوما يرفض تولي المسئوليات والمناصب.

ويلخص لنا بهجة الأثري موقف الألوسي من الدولة العثمانية بقوله: "كان حائراً بين الرضى بها والكره لها. ومن أسباب رضاه بها أنها كانت في هذا الشرق طوال خمسة قرون موئل المسلمين، وحامية الإسلام والحصن المنيع الذي قام بوجه الغرب المتحفز للاستيلاء على دياره وإخضاعها لسلطانه الذي قد يعتذر الخلاص منه إذا هي وقعت في قبضته. فإذا زالت هذه الخلافة، يزول معها الوجود السياسي للإسلام، ويحدث بعدها فراغ في الحياة الإسلامية يُهدد بملئه بحياة أخرى مكانها أو يُعرضها لمصاير منكرة لا طاقة لأحد بدفعها، أو هكذا كان يخيل إليه.

وأما باعثه على كرهها، فهو الفساد الذي أصاب حياة الدولة في أخريات أيامها، وكان استشري وجاوز المدى وبلغ الحد الذي جزع منه الأحرار، وعلاهم القنوط من إصلاحه ولم تغن معه حيلة ولا أجدى اجتهاد.

ولا ريب أن حزم الحازم يضيع في مثل هذين الحالين مهما ملك الإنسان صوابه ورشده، ولا تكون في أحدهما خِيرة لمختار" أ.هـ، وما يزال هذا التحليل الدقيق منطبقا على واقعنا اليوم!   

ونستفيد من مشاركة الألوسي في إدارة بغداد على ضرورة مباشرة المصلح للشؤون العامة إذا توفرت البيئة المناسبة من قبول الناس وتأييدهم وحرية الحركة.

 

6- لما هاجم الإنجليز العراق عام 1333هـ عقب الحرب العالمية الأولى، واحتلوا مدينة الفاو والبصرة، قررت الدولة العثمانية أن تجيش العاطفة الإسلامية في الجهات الإسلامية التي حاربتها الدولة العثمانية من قبل مثل الجزيرة العربية التي شنت عليها فقضت على دولتهم الأولى والثانية، وفزعت إلى الألوسي لتستعين بسمعته ونفوذه العلمي لإقناع الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود (مؤسس الدولة السعودية الثانية) بنجدة الدولة العثمانية والوقوف إلى جانبها في هذه الحرب، وأن يتولى ضرب مؤخرة الإنجليز في الوقت الذي يضرب الجيش العثماني مقدمة الجيش الإنجليزي.

وفعلاً قبل الألوسي المهمة دفعاً للشر والضرر عن بلاد الإسلام وسافر إلى نجد برغم شيخوخته وصعوبة الطريق ومشاق السفر على ظهر الجمال، وكان برفقته ابن عمه العلامة علي علاء الدين الألوسي، والحاج بكر بك، والحاج نعمان الأعظمي.

وفي نجد استُقبل الوفد أحسن استقبال وتفهم الأمير الغرض والغاية من السفارة، وأن نصرة المسلم لأخيه واجبة، لكنه رأى أن قوته لا تطيق محاربة الإنجليز، مما يفرض عليه الحياد؛ لأن دخوله في الحرب ينتهي إلى تقويض إمارته الصغيرة بما لا ينفع الدولة العثمانية شيئاً.

واقتنع الألوسي ورفاقه برأي الأمير عبد العزيز، وعادوا بوعده بالتزام الحياد، وعدم الانجرار للثأر ممن حاربه قديماً.

ولما عاد الوفد ووصل دمشق قام بعض المحرضين من أعداء الإصلاح بمحاولة تأليب الوالي جمال باشا السفاح على الألوسي، وأنه هو الذي أقنع الأمير بعدم نجدة الدولة والوقوف على الحياد، إلا أن جمال باشا الذي كان يعرف الألوسي جيداً وصدق نيته وإيمانه بالوحدة الإسلامية لم يسمح لهذه الوشايات، ورضي بالحياد من أهل نجد.

وفي سفره لنجد مرّ الألوسي على حلب ودمشق وفلسطين فالحجاز ومن ثم نجد، وقد استفاد خبرة واسعة من هذه السفرة بأحوال البلاد العربية، ولكن للأسف لا نعرف بمن التقى في هذه المدن، وهل كان له مجالس علمية بها؟ وهل حصل منها على مخطوطات؟ كما أنني لم أجد في ترجمة الأثري لشيخه الألوسي ذكر هل حج أم لا؟

 

7- ولما وقع البلاء واحتلت بريطانيا العراق، وقد عاش تحت حكم الإنجليز 8 سنوات، لم يقبل أن يتعامل معهم برغم محاولاتهم المتكررة معه لتسليمه بعض المناصب مثل منصب المفتي، وقاضي القضاة، كما رفض قبول الأعطيات منهم، ورفض قبول 300 جنيه من المندوب السامي البريطاني جاءه بـها تلميذه الأب أنستاس الكرملي، وقال له: "خير لي أن أموت جوعاً على أن آخذ مالاً لم أتعب في كسبه". وذلك حين كان الألوسي يعاني من الفقر فلا يلبس إلا ثيابا بسيطة، ويجلس على الحصير في غرفة وحيداً بلا زوجة ولا ولد!

وواصل جهوده في التدريس والتأليف وتحقيق للكتب، وقبل عضوية مجلس المعارف ليتمكن من توسيع نطاق العلم في العراق، والعضوية الفخرية للمجمع العلمي العربي بدمشق.

مرضه ووفاته:

 أصيب الألوسي برمل في المثانة سنة 1337هـ فأهمله، حتى اشتد عليه في سنة 1341هـ فانقطع عن التدريس مدة، ثم عاود التدريس فهزل جسمه وتعب قلبه، وفي العشر الأواخر من رمضان سنة 1342هـ أصيب بذات الرئة، وبعدها بأيام توفي عند أذان الظهر وحوله كتب العلم، رحم الله الآلوسي وألحقه بالصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وقد دفن بمقبرة الشيخ الجنيد وكانت له جنازة مهيبة، وصُلي عليه في نجد صلاة الغائب، ورثاه العلماء وأهل الفضل والدعاة الذين كانت له صلات مع كثير منهم، وقد رثاه العلماء والأدباء والشعراء:

رثاه الشاعر العراقي معروف الرصافي بقصيدة منها:

محمود شكري فقدنا منك حبر هدى *** للمشكلات بحسن الرأي حلالا 
قد كنت للعلم في أوطاننا جبلاً *** إذا تقسّم فيها كان أجبالاً 

ورثاه تلميذه محمد بهجة الأثري بقصيدة منها:

بغدادُ قد أقفرت من بعد مصرعه *** فقلقل الركبُ عن بغداد أهبالا 
هذي المدارس أضحت وهي باكية *** من بعد شيخ بنى الآداب أطلالا

 

مراجع للتوسع:

·        محمود شكري الألوسي سيرته ودراساته اللغوية، العلامة محمد بهجة الأثري، منشورات مركز المخطوطات والتراث والوثائق، الكويت، ط 1، 1416ه/1995م.

·        أعلام العراق، العلامة محمد بهجة الأثري، المطبعة السلفية، القاهرة، 1345ه.

·        مقدمة كتاب صب العذاب على من سب الأصحاب، أبو المعالي الألوسي، تحقيق عبدالله البخاري، مكتبة أضواء السلف، ط1، 1417ه/1997م.

·        مقال حياة الشيخ العلامة محمود شكري الألوسي، عبدالله بن صالح المحمود آل غازي، مجلة الحكمة عدد 5، شوال 1415ه.

----------------------------------------------

[1] -  رائد الدعوة السلفية المعاصرة في العراق، ومن تلامذته الشيخ صبحي السامرائي وعبد المنعم صالح العلي (محمد أحمد الراشد) وعنه اشتهر علم الحديث والعقيدة السلفية في العراق.